أفق
لينين في محكمةِ التاريخ (1-2)
تاريخ النشر : الخميس ٢٦ أبريل ٢٠١٢
عبدالله خليفة
انتقلتُ في علاقتي بلينين من المحبة إلى العداء، ثم إلى القراءة الموضوعية من دون محبة أو عداء، أي إلى قراءة تحليلية أتجنب أن تكون ذاتية.
ظلّل هذا الرجلُ مرحلةَ شبابنا، وكان معبوداً، وتدمر في تواريخ لاحقة حتى غدا مرفوضاً ملعوناً، لكنه صعد بشكل آخر حين تنامت القراءة الأعمق للتاريخ.
لينين دكتاتور، وكرّس نفسه لكي يكون دكتاتوراً، وهذا لم يخفهِ، لكنه دمجَ دكتاتوريتَهُ الشخصيةَ الحزبية بالطبقة العاملة، بإدخال دكتاتوريته الشخصية الحزبية فيها.
العمالُ غير قادرين على المشاركة في السياسة فكيف أن يكونوا قادة دولة كبرى؟!
العمال لكي يكونوا قادة دولة يحتاجون إلى عشرات السنين وربما إلى مئات السنين، فكيف يحدث ذلك؟ المثقف التقدمي يتكلمُ نيابةً عن العمال، إنه يختزلهم في شخصه المنتفخ سياسياً بشكل متصاعد تاريخي، أي مع تطور حركته السياسية التي تُصعدُ دكتاتوريتها ودكتاتوريته بين العمال والجمهور وكلما توغلت زادت البرامج شمولية وضخامة في التغيير.
هذه إزاحةٌ من برجوازي صغير لذاتهِ الطبقية الغامضة، المترددة بين الاشتراكية الديمقراطية والاستبداد الشرقي، والعمال يكونون مادة خاماً غير معبرة ولا مهيمنة.
البرجوازية الصغيرة بإحدى فئاتها وهي البلاشفة تتكلم عنها وتتداخل معها، وتصعدُ نفراً منها، كأدواتٍ لها. فالعمالُ لا يعبرون عن أنفسهم بل يُعبرُ عنهم.
هنا حدسٌ تاريخي وتحليل موضوعي من لينين، ومقاربة للعالم الشرقي الذي ينتمي إليه، وهو عالم استبدادي لم يعرف التغيير عبر الورود.
إن التغيير في الشرق يتم عبر القوة ومن ليس لديه قوة فلا يستطيع أن يغيّر، لينين يعيش وضع الشرق الاستبدادي ويتكلم من خلاله، فهو قد عبر منذ البداية عن هدفه الدكتاتوري وطريقه الدكتاتوري، ولم يقل عن الانتخابات الحرة والديمقراطية الغربية، بل قال أنا السلطة وأنا النظام.
الشرقيون في تحولاتهم عبر الماضي اعتمدوا على العنف، ومن لم تحمهِ قبيلةٌ وينهض على أكتاف مقاتليها أو من لم يجد قوة تنضم إليه لا مستقبلَ له في السلطان والتغيير على مدى قرون!
المسيح وغاندي لم يعتمدا على العنف بل على الأفكار والمحبة وفي المضمون حرّكا الجماهير الشعبية عبر نضالات سلمية عازلة للطبقات الحاكمة بحيث تمكنا من هزيمتها. وقد كان تولستوي الروائي الروسي الكبير هو معلمُ غاندي، لكن لينين في كتابته عن تولستوي لم يأبه بمسألة اللاعنف، وتغاضى عنها، وركزَ في الصراعات الاجتماعية وأن تولستوي المسالم لم يدخلْ الثورةَ في رواياته ولم يحول الفلاحين إلى ثوريين وإنه ركّز في مسائل الضمير والأخلاق والتغيير الروحي وكان هذا نقص في رؤيته حسب قراءة لينين. وقد كان تولستوي يهدف بشكل أساسي إلى عدم إدخال العنف في نضالات شخوصه وعوالمه، بل ركز في النضالات السلمية، والمحبة، وفي (البعث الروحي) وهذه اعتبرها لينين ثغرات في وعي تولستوي وليست ثغرات في وعيه هو!
وبين مسارِ هند غاندي المتحولة من نموذجهِ وبين مسار روسيا العنيف مفارقاتٌ هائلة، فقد وصلتْ الهندُ إلى مسار روسيا نفسه من دون كل تلك المذابح اللينينية والستالينية وبدم مائة مليون قتيل، بل من خلال مغزل وعنزة!
لكن روسيا كانت قائدةً للتحول الشرقي عامة، فمن دون روسيا السوفيتية يصعبُ وجود وانتصار الهند الغاندية.
روسيا قامت بدور القيادة التحررية لعالم الشرق، فإذا كانت اليابان قد عملت لذاتها الخاصة الأنانية وبكم هائل من الدماء، فروسيا عملت لنفسِها وللشرق والعالم المستعبَد، وهي تقدمُ نموذجاً دكتاتورياً مليئاً بالتجاوزات والجرائم!
لم يستطع لينين أن يكون اشتراكياً ديمقراطياً، فالاشتراكية الديمقراطية صالحةٌ للغرب، لدولٍ راحتْ تتطورُ في رأسمالية حديثة خلال خمسة قرون وأكثر، لدولٍ فيها صناديق الاقتراع والحريات الفكرية والسياسية والحب في الشوارع، فيما عاشتْ روسيا في استبدادٍ مطلق، فلم يعرف الروسُ صناديقَ الانتخاب، ولم يعرفوا النقابات والأحزاب العلنية، فكيف يؤيدون الاشتراكيةَ الديمقراطية؟
في روسيا مائة مليون فلاح أمي فقير حينذاك، فكيف يظهر التنويرُ وتصعدُ الديمقراطيةُ فيها؟!
هنا تنجح الدكتاتورية مثلما نجحت في بلدان أخرى لها السمات نفسها كما سوف يتفجر ويتألم القرن العشرون الشرقي!
عمل لينين على تجذير الاشتراكية الدكتاتورية، وهزيمة الاشتراكية الديمقراطية، وعلى تصعيد رأسمالية الدولة وعلى الدولة القومية الروسية.
منذ البداية في (ما العمل) أكد ضرورة وجود حزب دكتاتوري، يعمل على إسقاط النظام وإحلال الاشتراكية فيه. وانقسم الاشتراكيون تبعاً لذلك، بين إشتراكيي التعددية والتغيير التدريجي الديمقراطي وبين الفصيل البلشفي الدكتاتوري الذي يقوم بالتحولات النهضوية بشكلِ دولةٍ جبارة تقع كل الخيوط في يديها.
الشرقيون إلى زمنٍ طويل أقربُ للبلشفية منهم للديمقراطية، لأنهم دكتاتوريون محافظون، وذكوريون استبداديون، ويريدون التحولات بسرعة ومن خلال (القداسة) التي تحقق التحولات السريعة القافزة المتلاحمة لهم، من دون أن يقوموا بتحولات في شخوصهم وعائلاتهم ويوغلوا الديمقراطية في أوضاعهم ونفوسهم وحياتهم الشخصية.
وقد تمكن لينين بعبقرية من فهم المجتمع ومن وضع برنامجه موضع التطبيق وغيّر روسيا والعالم وفي بلد هائل وعالم شرقي نائم، وأمام وفي مواجهة قوى استعمارية هائلة ذات قدرات عسكرية عالمية مخيفة تدخلت وحاولت الوصول إليه ولكنه هزمها!