أفق
القوميات ورأسمالية الدولة
تاريخ النشر : السبت ٢٨ أبريل ٢٠١٢
عبدالله خليفة
مسألة القوميات أو الوطنيات عبر التطور الحديث تتوزع بين تجربتين أساسيتين هما ذاتهما اللتان ينقسم فيهما التطور الاقتصادي الاجتماعي بين الرأسمالية الغربية الديمقراطية والرأسمالية الشرقية الشمولية.
وقد أعطانا الاتحاد السوفيتي تجربةً نموذجية في كيفية إخفاق رأسمالية الدولة التي بدأت منذ 1917، لتشكيل دولة رأسمالية روسية حديثة متطورة عبر يافطات عمالية واشتراكية وبأشكال تسريعية حادة.
ولا تستطيع الدول أن تحل مشكلات القوميات مع بقاء رأسمالية الدولة، إلا عبر تحولها لديمقراطية وإجراء إصلاحات طويلة اقتصادية من أجل الجمهور والأقاليم المُبعدة والطوائف والأديان المهّمشة.
وبالضرورة لا بد أن تكون القوميةُ الروسية السائدة هي القائدة حسب سيطرتها السابقة ودورها التاريخي القبلي الحربي الطويل في الهيمنة على شعوب المنطقة حتى شرق أوربا. وبالتالي فقد سادت لغتها وآدابها وخطوط سيطرتها المختلفة.
العامل القومي لم يبرز ظاهراً في التأسيس ولكنه يطلع بعد ذلك حين يتكون الاقتصاد الحديث المتطور وحين تبدأ القوميات في الانفصال، فكل رأسمالية دولة قومية تغدو ذات مصالح وتظهر جذورها المصادرة.
هي عمليات تكون لقوميات لم تظهر أسواقها المستقلة واختلطت ثقافاتها بالدين والماركسية (الدينية).
السيطرة القومية لا تظهر فجأة بل هي عمليات تاريخية تتشكلئعبر قرون، وقد كانت القبائل الروسيةُ قديمةً ونزلت من الشمال للجنوب والشرق واحتوت شعوباً إسلامية ومسيحية وغدت إمبراطورية.
وحين أسست روسيا كيانها السياسي الشمولي لم يتغير عبر روسيا السوفيتية من ناحية الهيمنة القومية وبوجود هيكل مركزي مقره في العاصمة يدير البلد، وهذا بالتالي يقود لتركز التطور والثروة في مناطق فيما تعيش المناطق الأخرى في وضع أقل تطوراً بكثير.
بل يجري ذلك حتى في الدول الرأسمالية الديمقراطية العريقة بسبب تداخل الأديان والصراعات السياسية، فصراع المسيحية البروتستانتية والكاثوليك الإيرلندي هو صراعٌ سياسي قومي، بسبب تفاوت التطور بين انجلترا كقلب عمليات الحداثة الرأسمالية والتوسع العالمي والتي جرت منذ القرن السادس عشر وبين المناطق في بريطانيا(العظمى) التي كانت متأخرة أو مُسيطرا عليها، فجاءتْ للتطور بعد فترة طويلة نسبياً.
إن الدول التي تشكل رأسمالية دولة شمولية تعاني في الانتقال للديمقراطية، بسبب تكون سوق كبيرة ليست على أساس إنتاجي (حر) أي ليست على أساس السوق الحرة.
فرأسمالية الدولة بخلاف الرأسمالية الحرة تجري عبر سيطرة المركز السياسية الاقتصادية، ولا تتيح للأقاليم والمناطق خارجه أن يكون لها صوت في قراراته الاقتصادية.
كذلك تؤدي لمركزة المال في عائلات ومناطق معينة وطوائف محددة ومدن خاصة لها، فتنهار أو تتضعضع المناطق الخارجية، وينزح أهلُها للمركز للعيش أو للصراع ضده ونقل مؤثراتهم الدينية والقومية والعشائرية، وهذه أمور جرت حتى في الإمبراطوريات القديمة، لكنها في العصر الحديث حصلت على تسارع شديد، وتأثيرات إعلامية هائلة.
أتاح التطور الرأسمالي على أساسِ نمو السوق القومية الموحّدة دمج القوميات والشعوب بشكلٍ ديمقراطي تدريجي، فالبرلمانات تأتي لتعبر عن الطبقات الانتاجية المختلفة المتصارعة وعن الأقاليم المختلفة، وعبر زمن طويل من الصراعات والاتفاقات والتطور الاقتصادي المشترك، تحدث توازنات بين الطبقات والمراكز السياسية والعواصم القائدة وبين الأقاليم التي تسكنها عادة قوميات أو طوائف مختلفة، ويحدث نمو مشترك في المصالح والوعي واللغة والأحوال الاجتماعية، فتنفصل الأمم الجديدة عن تراثها العشائري والديني القديم وعلاقاتها القومية المؤجلة والمتوارية، وعن خرائطها الاجتماعية السابقة، دون أن تُلغى التناقضات والتفاوت بين المركز والأقاليم بشكل كامل.
لقد أتاح لنا التطور الروسي السوفيتي إدراك عمليات التبدل والانهيار والتطور في العلاقات القومية المتوارية تحت ستار من الشعارات والإيديولوجيا، وعدم قدرة الأخيرة على حل المشكلات الموضوعية في التطور، أي أنها أعادت الاستقطاب الاجتماعي الحاد بين العاصمة والقومية المتنفذة والحزب البيروقراطي المتغلغلِ في رأسماليةِ الدولة، وبين الشعوب والقوميات الأخرى، التي لم تصهرها ثقافةٌ قومية واحدة، وقد حاولتْ اللغةُ الروسية والثقافةُ الروسية ذلك بدون نجاح.
أي أن المسألة كانت تحتاج لسوق قومية موحّدة، مكوّنة على أساس ديمقراطي، ولهذا حين حدثت الانهيارات رجعت كل رأسمالية دولة إلى قوميتها، وأعلنت استقلالها، لتكرس ذات النمط السابق في وحدات أصغر ولتجابه نفس المشكلات في أسواق أصغر بكثير لكن الفوائض الاقتصادية تغدو موجهةً لسوق وطنية كما هو مفترض وكما هو مطلوب ديمقراطياً.
هذا ما تعانيه مضمراً أو متفجراً دول أخرى وإمبراطوريات مصغرة، كروسيا والصين وإيران والعديد من الدول العربية وغيرها.
وتغدو السيطرات القوميةُ المذهبية المتداخلة معبأة داخل أنسجة رأسماليات الدول وتغدو أكثر خطورة مع العسكرة والعنف وإفقار الجمهور، وانفجار القوى الشعبية بشكل قومي أو مذهبي، يحطم الإمبراطورية ويحولها لفسيفساء وقد كانت تبدو مصنوعة من صخور.