الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي

الأرضُ تحت الأنقاضِ

مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (14)

تاريخ النشر : السبت ٢٨ أبريل ٢٠١٢



الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلاً، والفوضى في كل مكان، والتعذيب شامل، وهو يعود ليحلل ذاته ومبادئه.
21
كان قيسٌ مُلقى في فصل دراسي. أُعيد لمدرستهِ لكي يتعلم ثانية. ملأ الماءَ الساخنَ رأسه، فانتشرتْ فقاقيع من الهواءِ والألوان والنظرياتِ الزائفة وتوحدتْ بفيضِ الكهرباء وشراراتها. ثمة كميةٌ من الغبارِ والوحول تساقطتْ من أطيافه. وتألقَ أبوه على نحو مفاجئ وساطع، وبدت كأن ملامحَهُ السمراء تشرشر حرارةً على جلده، هو وراء مكتبه في »العمارة« وأمامه غابة من الحديد والخشب، يصرخُ فيه:
- القوة.. هذا هو الخيار الذي اكتشفته بعد السنوات الطويلة من الدراسة!
- يا أبي أنت تريدني أن أكون محبوساً بين هذا الخشب، وأن أعصر الناسَ وروحي من أجل الدريهمات، وأمشي مثل سلحفاة عجوز، وأبحلقُ طوال عمري في هذه الكتب والمجلات التي كُتبت منذ قرن، والأمة ليس لديها وقت تضيعهُ الآن!
كانت الخطوطُ مقطوعةً بينهما، الأبُ في ثلة من الكهول يمشون بهدوء ويثرثرون في ذات الموضوعات، ويتكلمون عن سعد زغلول والنحاس والمقتطف وكل الأنفاس المعتقة للسنين الخوالي، وهو يجري بصحبتهِ بين الأندية وأسنةِ الرماح وغرف المطبوعات السرية وندوات النار، لا يسقط الميكروفون من يده، ويدفعُ الجموعَ نحو الشمس السوداء، وتتقطع ثلة أبيه، يصيرون عجائز ولا يكفون عن عصرِ المستخدمين، وتسجيل كل فلس بدقة متناهية، وتبهتُ خيوطُهم بالماضي، الذي يغدو عربةً ثقيلة تغوص في النهر، ولا يبدو سوى زجاجها اللامع بين الخشب.
وهو حين يمتلك العمارة بعد أبيه، يختنق بين جدرانها وظلماتها وحديدها القاسي الذي لا يُباع بسهولة، ويشعرُ بأن الطائرَ المحلق قد غاصتْ أرجلهُ في الطين، وأصبحَ مهموماً بدفتر الحسابات، ينام على قضبانه الرقمية الصاعدة أو النازلة، ويضحك من القائد الذي تبخر، ويأتي إليه الإخوة في العمارة، فيتحدثون ويخططون وينسجون خيوطاً إلى الدوائر الحكومية، ويصعدون بسرعة أدهشته، وبدأ الحديدُ ينفد، والخشبُ يختفي ويتوارى في البيوت الجديدة، وعمارته تتمدد وتتعدد، وخليتهُ عاقر، وتحول اللقاءُ مع الإخوة إلى نادٍ، واسترخت الحياة وما هدأ الصوت. وحينئذٍ كان يعجب لأن هذا التوسع والازدهار لم يجلب وجوهاً جديدة كثيرة، بل تحول النادي إلى مركز للتندر، ورغم مخاض الأمة العنيف وتدفق السيول، فقد بقوا مجرى صغيراً. وكان الآخرون يزدهرون ويخوضون الحياة، وهم في شلتهم يصدرون البيانات الملتهبة ويثرثرون في شرفة النادي، محدقين في الشارع والسماء. لم يكن وقتذاك يتساءل، ويرى لهفتهم البالغة للمناصب، وتنافسهم على تشييد الفلل الباذخة، وكانوا دائماً يقولون إنهم الذين سينتصرون، ويتغلغلون في شرايين الأجهزة حتى يبدلوا كل شيء، حتى إذا تعرف على وردة الطالبة الجامعية اهتزت قناعاته. انبهر بها روحاً (وجسداً)، وبدا أنه نسي الثروة والثورة، وصار كالمراهق يلاحقها من مكان إلى آخر، ويفرض عليها حضوره، وغناه، لكنها لم تأبه به، وظلت في رحلاتها وجولاتها مع شاب صغير ضئيل. ومرة كان يتحدث فيها بندوة عبر لغته المليئة بالمواد المتفجرة، فوجئ بها تقف أمامه، وتمزقُ أفكارَه، وهو كان خائفاً أن تتسرب إلى جوانبه الشخصية، وتعري وقوفه أمام الجامعة، وملاحقتها، وكلماته الفاضحة لها، ولو كانت فعلت هل سيتغير؟ هل سينتبه، ويرى ذلك العصفورَ الجميل الذي دخل غابة الشوك؟
مَن هناك يأتي في هذه اللحظة؟
انتبه إلى انفتاح الباب، وتوغل شبحٌ إلى الفصل، وتحريكه لمقعد يعيقه، الظلامُ دامسٌ، وهو لايزال يرى وجه وردة الفاتن، وانهياره قربها وهو يقول: »سأعطيك الكثير من المال«، فتضحك عليه، هو الذي.. يشعل القادمُ سيجارة، فيبدو وجه عبدالرحمن المثلث الذئبي، وعيناه الخرزتان الغامضتان، فيبدأ جسمه يتنمل. يفح:
- هل تتذكر اسم الممثل الذي ادعيت شخصيته الآن؟
- من يتلقَّ تلك الوجبات ينسَ حليب أمه!
- لا حليبَ بعد اليوم!
ضحك الضابط من قلبه. كان قيس يشعر شعوراً عجيبا وهو في التعذيب بالارتياح. يحسلا أن تلك الضفادع والخرق والجوارب العتيقة التي كانت تملأ روحه تتساقط، إنه يسبحُ في نهر من الجثث نحو النبع.
- نحنُ العراقيين ندين لك بواجبات خاصة، فأنت أحد البارزين في نشر ذلك الفكر، الذي عمل في بلادنا ما عمل، ولهذا حين تخونه نشعرُ بألمٍ مزدوج، فقد صنعتَ ما صنعتَ لبلادنا المنكوبة وها أنت تتنصلُ منه، ها أنت تهربُ من مسئوليتك في ساعةِ تطبيقه، فإما أن تتنكر له، وترفضه، وإما أن تواصل مسيرتك، فهل أنا منطقي وعادل في كلامي، أم أنت المتخاذل والمتناقض؟
- هل كان فكراً؟ إنني وقد أصبحت كهلاً، وعشتُ حياة غريبة، لم تعد لدي قدرة أن أفكرَ بعمق، إنني الآن أبحثُ في نفسي عن حبال أتعلق بها، فلا أجد، أنا أنزلق في هاوية، وأفتش في ذكرياتي وروحي وزملائي وأبي عن الخيط الغريب الملتهب الذي ألقى بي هنا، وجعلك تهرسني، وأرى أن كثيرين كانوا أفضل مني، وقد لا يأتي اليوم الذي أقف فيه أمام أهلك وأعتذر، قد لا تسمح لي مياهكم المعدنية الساخنة بهذه الفرصة، لكنني أشعر في هذا الوقت بأني أصبحت أفضل.
- لن تصبح كذلك إذا بدأت مياهُنا تتغلغلُ في ابنتك وابنك. حينئذٍ سيكونُ تألقك أكثر سخونة!
- ليست لدي ابن وابنة، لكنني ولدتُ في أغسطس ورضعت الرماد معاً مع ابنتي سلمى.
- ليست ابنتك، ثمة إخوة لها مناضلون أوفياء، وربما عما قريب يأتي أبوها نفسه، قاطعاً صلةَ رحمك بها.
- ماذا حدث لها أخبرني؟
- كلُ خير، إنها مربوطةٌ في زنزانة، غيرُ قادرةٍ على التبول الحر22
كانت ضجةُ العائلة العراقية في الطابق الأسفل لا تُطاق، الأولاد اتخذوا القاعةَ ميداناً للعب، والكرةُ تخبطُ الجدار، والأقدامُ تهز البيت، والصراخ يتعالى، والكبار يبحثون عن الأكل، وقد استولوا على المطبخ، ولم يعد رأسُ فاتن يتحمل كل هذا العنف، فتمضي إلى غرفة لؤي، وتسمعه يقرأ القرآن بنغمة حزينة، تقول:
- هل ستجلس هكذا وتتركهم يستولون على الأكل والأشياء في بيتنا، وبكل هذا الصراخ والفوضى؟
يمشي بهدوء، محني الظهر، كأنه شاخ فجأة، وتنزل معه، لتحدق بغضب في ثلة الأطفال وتصرخ:
- أذهبوا إلى الخارج والعبوا هناك، هل هذا معقول الذي تفعلونه؟
ولم تصدق أن الصغارَ كانوا يتطلعون إليها بمهابة، ويجمعون أعضاءَهم المبعثرة ومزق ملابسهم، ويقول صغيرٌ يكادُ يقتربُ من الأرض:
- إن شاء الله خالة!
حين دخلا عليهم في المطبخ وجدوا ثلاثة كباراً يحصون ويعددون المؤن، فقالت فاتن بحدة:
- هل يحصي اللصوصُ الغنائمَ؟
كان ثمة امرأةٌ كهلةٌ تفرز الأرز والقمح، وقد رفعتْ رأسَها حين فُوجئت بالكلام، وبان في عينيها حرج، وتقدمت ببطء من الشابة، وتكلمت بتقطع:
- أعذرينا يا ابنتي. نحن لا نعرف ماذا يحدث. وقد جئنا هنا وهم يدفعوننا.
قاطعتها فاتن بصرامة:
- لستُ ابنتك، وأنت تدخلين بيتي كمجرمة وتسرقين طعامي!
- ماذا نفعل؟ لدينا أطفال ونحن جياع.
صرخَ الرجلُ الثاني وهو الشاب قائلاً:
- لا تعتذري إليها يا أمي، هؤلاء بمنتهى الغرور، ونحن جئنا إلى بلدنا المغتصبة ونأخذُ حقوقَنا!
قالتْ الأمُ غاضبة:
- أسكتْ أنت يا غسان، أعذريه يا ابنتي، هذا ولد طائش، سوف لن نأخذ إلا ما سنأكله، وأنتم تستطيعون أن تأتوا هنا وتطبخوا. البيت واسع والمطبخ كأنه قاعة! بل سوف نخدمكم إذا كنتم تريدون!
تطلعت فيها بحرقة. نزيفُ الكلامِ توقف عند لسانها.
واندفعت إلى الطابق الأعلى بحنق. قال لؤي:
- نحن كلنا مسلمون، وليس في أخلاق الإسلام اغتصاب الأرض والبيوت ودخول الحرمات، ذلك إثمٌ عظيم، كيف ستقابلون ربكم يوم القيامة؟
دمعتْ عينا المرأة:
- يا ولدي جاءَ إلينا هؤلاء وأخرجونا من أكواخنا وضربونا ووضعونا في اللوريات وقالوا أسكنوا في بلدكم وخذوا هذه المساكن. ماذا سنفعل؟ لو كنتَ مكانَنَا ماذا ستفعل؟ ونحن سنأكل وننام في هذا البيت، لن نأخذ شيئاً، وزوجي سيعود للأرض، لقد تركنا حقلَنا شبه الميت، الآن يحترق في هذا البرد! نحن لا نعرف ماذا نفعل هنا؟
- افعلوا ما يرضي الله.
- ما هو ما يرضي الله؟ علمني إنا لم أذهب لمدرسة، كل حياتي في الزراعة!
مضى إلى أخته، التي كانت تحوم وتغلي في الغرفة، قالت في وجهه:
- كيف يمكن أن نعيشَ مع هؤلاء؟ كيف سنأكل؟ لم يعد ثمة خدم!
- أرأيتِ ذلك الشاب كيف كان ينظر إليك؟ لابد لك من تغيير هذه الملابس، وأن تضعي حجاباً، إن جسمي يتنملُ من وجوده.
- لم ينقصني إلا هذا، ماذا يحدثُ لك يا لؤي؟
- أخافُ أن ينفرد بك، وبعد كل هذه اليوميات المريرة العادية، يحلو في عينك!
- ألا تخجل من كلامك؟ أهذا ما أفكرُ فيه؟ وطننا كله مستباح وأنت تفكر في عذريتي؟
- لننعزل عن هؤلاء، نكتفي بغرفة كبيرة ونغلقها، ولا نخرج إلا بشكل جماعي.
- تلك الأم مسكينة، الرجلان الكبيران هادئان، منعزلان، يشربان الشاي بكثرة، ويدخنان.
- هم خرجوا من الملة كلهم، هم كفار أعداء، ليس لهم من حل سوى قطع الرقاب. دعيك من رومانسيتك. حين لامستُ أبي اكتشفتُ صحوةَ عقلهِ العميقة قال لي بشكلٍ ناري: استعملوا القوة! اقتلوهم!
- كيف له أن يعي؟ كيف يمكن أن يقول ذلك وهو الذي يحبُ العراقَ حباً أشبه بالعبادة؟
- تابَ وأناب الآن. لقد بدأ يحرقُ أوراقَه.
- كيف تعرف كل هذا الخيال؟
- زارني في صلاتي. طيفهُ رفرفَ في حلمي. اتحد مع المرسلين.
(يتبع)