الجريدة اليومية الأولى في البحرين


راصد


«قل لا إله إلا بشّار»

تاريخ النشر : الأحد ٢٩ أبريل ٢٠١٢

جمال زويد



انتشر خلال اليومين الماضيين مقطع فيديو مسجلاً، يظهر عدداً من قوات الأمن السورية تقوم بدفن شاب سوري في التراب وهو حي. هذا المقطع انتشر بسرعة كما البرق، محتواه تتقطّع له القلوب وتتحسّر عليه الأفئدة ولا تملك مآقي العيون أمامه إلاّ أن تذرف غزير الدموع على هذه الجرائم الفظيعة التي يجري ارتكابها على مرأى ومسمع من العالم.
المقطع المسجل يُظهر شاباً سوريا مدفونا حتى رأسه في التراب، ويقف حوله مجموعة من الجنود، كان هذا الشاب يردد «ما لنا غيرك يا الله» فيأمره أحدهم بأن يقول: «قل لا إله إلا بشار» لكنه يصرّ - كما الجبل في شموخه- فيقول «لا إله إلا الله» فيقول لهم قائدهم: «اطمروه يا رجال.. اطمروه» فيجري دفنه حياً في الرمال وهو يردد الشهادتين حسبما ورد في مقطع الفيديو الذي تناقلته الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، أحسب أن الكثيرين من قادة العالم -ومنهم زعماء العرب والمسلمين- ومنظماته وهيئاته وبرلماناته وشعوبه قد شاهدوه وتعرّفوا على المنطلقات العقديّة لمرتكبي المذابح والمجازر اليومية في سوريا، لكنهم فضلوا أن يكونوا مثل المتفرجين على اغتصاب ومقتل «كيتي جينوفيس» ولم تتحرّك فيهم نخوة وشهامة الخليفة المسلم «المعتصم بالله».
أما «كيتي جينوفيس» فهي امرأة تعود قصتها إلى عام 1964 عندما كانت عائدة من العمل إلى منزلها في أحد أحياء نيويورك، وأثناء سيرها في حديقة تطلّ عليها عدة عمارات ومنازل هجم عليها مجرم سفاح، وبدأ يطعنها ولكنها قاومت ببسالة وأخذت تصرخ وتستغيث مما جعله يختفي، لكنه لم يذهب بعيداَ، بل كان ينتظر هل سيأتي أحد لمساعدتها؟ فلما لم يحدث شيء عاود هجومه الشرس وطعنها عدة طعنات واغتصبها، وقد استغرقت العملية نصف ساعة تماماَ منذ بداية الهجوم، ولم يتدخل أو يقدم أحد أي نوع من المساعدة، ولم يطلب أحد الشرطة بالهاتف. واتضح في التحقيقات الأمنية مع الجيران في اليوم التالي أن (38 شخصاَ) أقرّوا بالمشاهدة وسماع استغاثة المرأة لكنهم لم يفعلوا شيئا حتى انتهت الجريمة بموتها!!
وأما الخليفة المسلم «المعتصم بالله» فكلنا يعرف قصته الشهيرة حينما نُقل إليه -بالطبع ليس عبر الفضائيـات والإذاعـات أو الانترنت أو شبكات التواصل الإلكتروني كما هو حال النقل اليوم- استغاثة امرأة مســلمة تبعد عنه مئات الأميال، صاحت طالبــة النجـدة حينما حاول بعض علوج ذلك الزمان الاعتداء عليها، حيث سمعها أحـدهم، فأبلغ بذلك الخليفة المعتصم الذي لم يسـتدع وزير إعلامه أو المصدر المسـئول في حكومته لتدبيج تصريح صحفي ولم يملأ الدنيا ضجيجاً وصراخاً وخطباً رنانـة، ولم يدعُ إلى عقد قمة أو اجتماع وزاري، وإنما جهز على الفور جيشاً جرّاراً لإغاثـة هذه المرأة! وكتب المعتصم إلى ملك الروم رسالة جاء فيها: «من أمير المؤمنين المعتصم بالله إلى كلب الروم أما بعد، إذا جاءتك رسالتي فانتظر جيشاً أوله عندك وآخره عندي».
ولذلك من لامست أسماعهم استغاثة «كيتي جينوفيس» وصرخاتها لكنهم فضلوا اتخاذ موقف المتفرجين عوضاً عن شجاعة الناصرين، وتركوها تُذبح حتى الموت لا يختلفون عنّا كثيرا، بل نحن أسوأ منهم باعتبار أنهم خذلوا وجبنوا عن نصرة واحدة فقط هي «كيتي جينوفيس» بينما أمثالها في سوريا كُثر، هم في خانة عشرات الآلاف؛ مات الضمير والإحساس إزاءهم، ونُحرت قيم الشهامة والنخوة والأخوة والانتصار للمظلوم.
أكثر ما يلفت الانتباه الآن فيما يحصل في سوريا هو أن أصوات الرجاء ونداءات الاستغاثة قد توحدت صيغتها ووجهتها، الجميع يقولون «ما لنا غيرك يا الله» وذلك بعدما تخلّى عنهم القريب والبعيد وانكشف حجم التواطؤ والتآمر.
لسان حال الشعب السوري إزاء ما يقوم به اليوم الجلاّد من إراقة دماء زكية وقتل وذبْح، لا يفرّق فيها بين كبار وصغار، أو رجال ونساء وأطفال في مشاهد لجرائم ومجازر مروّعة تقشعرّ لها الأبدان؛ لسان حالهم يقول لجزّار سوريا: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» حتى لو أيّدته وتواطأت معه كل قوى الأرض، فحسابات السماء وتقديرات المولى عز وجل ليست كما البشر.
سانحة:
قال الشاعر عمر أبو ريشة:
رب وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه البنات اليتم
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يُلام الذئب في عدوانه
إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما
كان في الحكم عبيدُ الدرهم
وحسبنا الله ونعم الوكيل