الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


الصراعُ غيرُ الخلاق

تاريخ النشر : الاثنين ٣٠ أبريل ٢٠١٢

عبدالله خليفة



الصراعُ الجديدُ الذي يتشكلُ بين الجماهير العربية والأحزابِ الدينية هو استمرارٌ للبنية التقليدية العربية المتخلفة.
وهو نتيجةٌ لأن الصراع بين الإقطاع السياسي الذي هيمن على العديدِ من الدول العربية والإقطاع الديني لم ينتهِ بنتيجةٍ مرضية، لأن وجود أحدهما وغياب الآخر، ربما متنحياً، وربما هو في الإدارات البيروقراطية والعسكرية، هو بقاء لمجتمعات التقليدية نفسها.
هما تركيبةٌ واحدة، هما وجهانِ لميداليةِ التخلف، بل لقد فاقم تحولُ المذاهب الإسلامية إلى أحزابٍ من مخاطر التخلف، نحو تفتيت الدول التي كانت موحّدةً بالقوة أو شبه موحدة بعلاقات هشة بين الأقاليم والمراكز.
لم يكن أحدٌ يتوقع أن تؤدي شعارات حسن الترابي لهذا الفسيفساء المحروقة الحارقة لشعب السودان الطيب الموحَّد، الذي صار دولتين متعاديتين وقبائل حارقة لأرضها ومراكز مسلحة متصادمة، وحروباً لا تتوقف!
لقد قامت الفئاتُ الحاكمة الإقطاعية والقبلية بإشعال الحروب الدينية والمذهبية بدايةً بشكل أقوال ودعايات مدعيةً بـ (الحقيقة) والعودة للأصالة وعظمة التراث ورفعتْ الرموزَ الدينيةَ زوراً كما رُفعتْ المصاحفُ على أسنةِ الرماح.
وعلى مدى سنوات جُرت الجماهير لتنظيماتِها وغذتها بالكراهية لإخوتهم وأخواتهم المختلفين معهم في المذهب والدين والوطن، وقد تُركَ هؤلاء المجرمون الثقافيون السياسيون ينشرون أفكارَهم، ويجرون الناسَ لمصايدِهم، وكلُ فريق في السلطة يستعينُ بجماعة، ويعزز كرسيه المتصدع بعمائم وقبضات البسطاء التي أُبعدتْ شيئاً فشيئاً عن المصانع والحقول والاكتشافات والغوص في البحر وتجميع الثروات وعن القراءة والحداثة، إلى تجميع الشعارات والصراخ الطائفي والهتاف الديني المسيّس، ولتوسيع التنظيمات العتيقة المُعادة التصنيعِ من خرابِ الماضي وخرائبه.
وفي ذروةِ أنشطتِها وحين امتلأتْ الحظائرُ السياسية باليائسين والمحطمين من الشعوب لم تبقِ أوطاناً وخرائطَ سياسية وبلداناً فغدتْ أطلالَ بلدان.
صارت البرامج هي العودة لما قبل ظهور هذه الجماعات الدينية، صار حلماً أن تعود مصر للوفد، والسودان لوطنية الخمسينينات والستينيات، لكن أين ذلك؟ فلا بد أن تدفعَ الجماهيرَ الأثمان الباهظة لعدمِ معرفتِها وجهلها بالإسلامِ والتاريخ والعصر.
إن البرامج الميتة المستعادة لم تأتِ أكلُها الشيطاني بعد، سوف تواصلُ الافتراسَ، ويصبح ما حدث في الجزائر وما يجري في السودان مجرد بروفات أولية على مسارح الخرائب الطالعة.
تؤكد هذه الجماعاتُ عداءها الشديد للعلمانية، وهي الفيصلُ في تعريتها، وكشف خداعها.
فهي إذ قامت على أنقاض السلف الديمقراطي المشكل للجبهة التعاونية الجامعة بين التجار من جهة، والفقراء والعبيد من جهة أخرى، وعاشت على ثقافات الدول الاستبدادية إلى أن ألغت ذلك التحالف النهوضي وتحكمت في العبيد والفقراء فدمرتْ أنظمتَها، لأنه لا أنظمةَ تبقى مع غيابِ التعاون الديمقراطي بين الطبقات المنتجة، ومع حضور الطبقات الاستغلالية المبذرة للمال العام، التي تجعل الدينَ شكلانيةً حَرفية ومظهرية، وعبر هذه الشكلانيات الطائفية المتعددة الصور، وبموادها الفقهية المحدودة الجزئية، وبقاء المضامين الإقطاعية، صعدوا الأحزابَ الطائفية لتحرق خرائط البلدان الإسلامية!
المادةُ المُسيَّسةُ من الدينِ هي غيرُ الدين، هي مادةٌ مؤدلجةٌ مكرسة لسيطرات متخلفة.
ولهذا فإن ظهور التحالف بين التجار والفقراء الذي برز مجدداً في الدول الغربية الديمقراطية، وتحول إلى أنظمةٍ عالمية، يُحتم عدم لجوء المتحَالِفين المتصارعين وهم الرأسماليون والعمال في هذا الزمن المجدد، إلى المادة الشكلانية الدينية المصاغة في عصور الإقطاع، وتحويلها لأدواتٍ في السياسة والانتخابات وتكوين الأحزاب، وهي مادةٌ مشتركةٌ مرئيةٌ بأشكال مختلفة عند الفرقاء المتنافسين سياسياً.
ولهذا فإن منع استخدام الدين في السياسة وهو شرطٌ أساسي للديمقراطية ومن دون هذا الشرط لا ديمقراطية!
لكن قوى البرجوازية الصغيرة التي ترضعُ من العصور القديمة الحليبَ المسموم لا تدرك أنها لا تصنع ديمقراطية بل خرائب للخرائط الوطنية.
لماذا لا يتوجه الترابي الآن لرؤية عظام المواطنين السودانيين المحروقة والمنتشرة في كل مكان؟ لماذا لا يجمعها ويحسبها؟ فهل ستبقى الابتسامة المغرورة المتشدقة بفهم الإسلام؟
هذا الصراعُ السياسي غير خلاق، بل هو صراع مدمر، لا ينتج تقدماً إقتصادياً للناس، بل يفجر الصراعات الجانبية ويخرب الأحياء التي كانت صديقة لبعضها بعضا، بينما الصراع الغربي خلاق لأنه منتج