الدور السياسي للصين في الشرق الأوسط
 تاريخ النشر : الخميس ٣ مايو ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
طحتى وقت قريب كانت الصين تكتفي بالدور الاقتصادي في نشاطها بمنطقة الشرق الأوسط، ملتزمة مبدأ عدم التدخل في السياسة الداخلية، ومدركة أن هذه المنطقة من الناحيتين السياسية والاستراتيجية هي منطقة خالصة للولايات المتحدة الأمريكية، ومعبرة عن عدم رغبة في هذا الوقت في منافسة الإدارة الأمريكية بهذه المنطقة المهمة، وخاصة أن الولايات المتحدة هي السوق الأكبر استيعابًا للصادرات الصينية في وقت تعد فيه هذه الصادرات هي من يقود النمو الاقتصادي السريع في الصين، كما تحاشت الصين عدم إغضاب أي طرف من الأطراف المتصارعة في المنطقة حفاظًا على استمرارية مصالحها المتمثلة أساسًا في العقود النفطية بعد أن غدت الصين ثاني أكبر مستورد نفطي في العالم، ولكن مع تعاظم قوة الصين الاقتصادية حتى غدت القوة الثانية في العالم اعتبارًا من ٢٠١١ بعد الولايات المتحدة مباشرة، وبعد أن أخذت الفجوة تضيق بينهما معززة توقعات أن تصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم في غضون عقود قليلة، أخذ دور الصين في منطقة الشرق الأوسط يتحرك في المجال السياسي، الذي بدت فيه في أحوال كثيرة كأنها تناوئ السياسة الأمريكية وتسعى للحصول على رضا شعوب المنطقة.
وتبرز أهمية الدور السياسي للصين في الشرق الأوسط كونها تملك حق الفيتو داخل مجلس الأمن، ومن ثم ففي إمكانها تعطيل صدور أي قرار عن هذا المجلس قد تجده ضارا بمصالحها، التي على رأسها استمرار تدفق نفط الشرق الأوسط إليها، وفي هذا السياق نجد حرص الصين على تفعيل منتديات التعاون العربي الصيني، والافريقي الصيني، فضلاً عن الوصول إلى اتفاق منطقة التجارة الحرة الصينية الخليجية في أسرع وقت ممكن، كذلك تبدي حرصها الدائم على أن علاقاتها بإسرائيل ليست على حساب علاقاتها الاستراتيجية مع البلدان العربية، وأنها تكاد تكون محصورة في تجارة بعض المعدات العسكرية، ويعزز الدور السياسي الجديد للصين في منطقة الشرق الأوسط اهتمامها بتطوير سلاحها البحري للوجود بشكل فعال في منطقة المحيط الهندي التي تشكل الحد البحري الجنوبي لهذه المنطقة.
والخطوط العامة للدور السياسي للصين في الشرق الأوسط الذي يستند إلى قوتها الناعمة، تتمثل في إثبات أنها ليست تابعة للولايات المتحدة، وإنما هي شريكة لها ينبغي أن يؤخذ رأيها، ومن ثم فهي تعارض الإجراءات الأحادية، وأن هذا الدور يرتبط مباشرة بمصالحها الاقتصادية، التي على رأسها تأمين الشرق الأوسط كسوق تجارية لصادراتها وتأمين احتياجاتها من النفط والغاز (الصين ثاني مستهلك للنفط بعد الولايات المتحدة بمتوسط ٩,٢٥ ملايين برميل يوميا) وتعدد مصادرهما، بأفضل الأسعار والشروط، والفصل الكبير بين اعتبارات التجارة والسياسة ورفض تسييس التجارة.
ففيما تعارض بكين بشدة أي محاولات لطهران لامتلاك أسلحة نووية، فإنها تدافع عن علاقاتها التجارية مع إيران ضد الانصياع لضغوط العقوبات الغربية، ولكنها تحاول في الوقت نفسه الاستفادة من ضعف موقف إيران التفاوضي التجاري نتيجة عقوبات حظر استيراد النفط الإيراني التي تصبح نافذة من يوليو القادم، وقد أعلن الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر سوق للخام الإيراني التزامه بها، وتتمثل هذه الاستفادة في الحصول على مزايا سعرية أو في شروط الدفع، ملوحة بإمكانية أن تخفض وارداتها من النفط الإيراني وخاصة بعد أن عرض الطرف الأمريكي على الصين إمكانية تعويضه من مصادر بديلة.
إن الصين في المسألة الإيرانية تدعو إلى التزام الطرائق الدبلوماسية، وتعارض بشدة فرض عقوبات على إيران ومنع المصارف الأجنبية من التعامل مع المصرف المركزي الإيراني قبل تقديم أدلة دامغة على أن إيران تقوم بتطوير أسلحة نووية، والصين في هذا الشأن توازن بين مصالحها مع طهران التي تحصل منها على ١١% من إجمالي وارداتها النفطية بما يمثل نحو ٢٢% من مبيعات النفط الإيراني، ومصالحها مع الولايات المتحدة شريكها التجاري الأكبر والدول العربية النفطية المزود الرئيسي لها في احتياجاتها النفطية، وفي هذا الإطار كان الاهتمام المتزايد للدبلوماسية الصينية في أعلى مستوياتها بمنطقة الخليج، وزيارة رئيس الوزراء الصيني «وين جيا باو» للسعودية وقطر والإمارات في يناير الماضي، وفي هذا التوازن قامت الصين بالفعل بخفض وارداتها النفطية من إيران بواقع ٢٨٥ ألف برميل يوميا اعتبارا من يناير ٢٠١٢، وهو رقم يصل إلى أكثر من نصف المعدل اليومي لمشترياتها النفطية من إيران العام الماضي، برغم أن الصين تفضل النفط الإيراني لقرب المسافة ومن ثم انخفاض الكلفة وجودة هذا النفط، فان هذا الخفض في المشتريات الصينية وراءه رغبة صينية كبرى في الحصول على خصومات سعرية من جانب وتنازل للولايات المتحدة في مقابل إعفاء المصارف الصينية من العقوبات نتيجة التعامل مع مصرف إيران المركزي من جانب آخر، وخاصة أن الصين هي أكبر دائني أمريكا وأكبر شريك تجاري لإيران، وقد بلغ حجم التعامل التجاري الصيني الإيراني إلى أكثر من ٤٥ مليار دولار في ٢٠١١، كما أن الصين هي أكبر مستثمر أجنبي في إيران، ولهذا فإن عدم التزام بكين بتطبيق كامل حزمة العقوبات الدولية يجعل هذه العقوبات ضعيفة الأثر، ولكن الصين التي تتصرف برجماتيا ستحدث تحولاً في الوقت المناسب إذا ما وجدت أن كفة الميزان أخذت تميل بشكل نهائي ضد طهران، مما سيكون له أثره البالغ في إحداث تطورات سياسية داخلية في إيران، وتغيير لغة خطابها المتشدد، وخاصة مع التطورات التي تشهدها المنطقة.
وسلوك الصين البراجماتي أيضًا هو ما دعاها إلى الإحجام عن استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن لمنع قرار السماح لحلف شمال الاطلنطي بشن حملة قصف جوي على قوات القذافي، ثم عادت وأدانت هذه الضربات بما يحسن صورتها لدى المعارضة الليبية، فقد أمسكت العصا من المنتصف حماية لاستثماراتها في ليبيا، وأعلنت في كلام عام احترامها لإرادة الشعب الليبي وأملها في عودة الاستقرار، ثم أشادت بالمجلس الوطني الانتقالي كشريك حوار رئيسي، وكانت حريصة على المشاركة في مؤتمر أصدقاء ليبيا الذي شهدته العاصمة الفرنسية في سبتمبر الماضي؛ حيث رأت ضرورة استعادة الاستقرار بأسرع وقت ممكن وبدء العملية السياسية الانتقالية واحترامها اختيار الشعب الليبي، واستقبلت مندوبي المجلس الانتقالي في بكين وأعربت عن استعدادها للمشاركة في عمليات إعادة الإعمار.
يذكر أنه قبل الأحداث كانت هناك ٧٥ شركة صينية منها ١٣ شركة مملوكة للدولة منخرطة في أكثر من ٥٠ مشروعًا بقيمة إجمالية ١٨,٨ مليار دولار في مجالات الإسكان والسكك الحديدية والاتصالات والمباني الحكومية والملاعب الرياضية والمنشآت النفطية، كما أن الصين تحصل من ليبيا على ٣% من إجمالي وارداتها النفطية (تصدر ليبيا من النفط ١,٦ مليون برميل يوميا) وكرد فعل مبدئي على نجاح الدبلوماسية الصينية في ليبيا الجديدة كان إعلان قادة المجلس الانتقالي النية في تعويض الشركات الصينية عن الخسائر التي تكبدتها خلال أحداث الثورة الليبية.
وحرصًا على كسب موقف الأطراف الذين للصين مصالح معهم فقد دافعت بكين في الأزمة السورية عن خطة الخروج من هذه الأزمة تحت إشراف جامعة الدول العربية، وعارضت طرح عقوبات محتملة ضد النظام السوري، وبرغم تزايد الضغوط على الصين كي تلجأ إلى التملص، بحيث تمتنع عن التصويت فإنها استخدمت مع روسيا حق الفيتو ٣ مرات لمنع تبني مجلس الأمن قرارًا حول سوريا في ثلاثة أشهر من إجمالي ١٣ مرة هي كل استخدامها لهذا الحق في ٤١ عامًا برغم أن سوريا تعد شريكًا ثانويٌّا للصين، الأمر الذي استحسنته إيران، كما قامت الصين بتوجيه دعوة من حكومتها لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي السورية المعارضة، حيث أكد الطرف الصيني ضرورة الفصل بين استخدام الفيتو والموقف من السياسة الأمنية والعسكرية للسلطات السورية، وأنها تحترم مطالب الشعب السوري العادلة، وتحترم التوافق الوطني الأوسع على سيناريو المرحلة الانتقالية، وتؤيد خطة العمل العربية، ولكنها لا ترى أن مجلس الأمن هو المكان المناسب لإنجاحها، محذرةً من تكرار ما حدث في ليبيا.
والصين القادمة إلى المنافسة على الزعامة الدولية ترى في المسألة السورية أمرًا مختلفًا عن إيران والعراق، وأنها يمكن أن تمثل بلقنة جديدة وتقسيم مناطق نفوذ بين قوى القارة العجوز والولايات المتحدة، وأنها خطوة في طريق إنجاز مشروع الشرق الأوسط الجديد، لهذا لن يكون للإغراءات المالية والاقتصادية الأمريكية لحمل الصين على تغيير موقفها أثر إيجابي، ويستمر الموقف الصيني لحل الأزمة السورية من خلال حوار سياسي سوري ؟ سوري وسوري ؟ عربي.
يذكر أن الهيئة التي دعتها الصين لزيارتها تختلف عن المجلس الوطني وتتمسك بلاءات ثلاث هي: لا للتدخل الخارجي ولا لعسكرة الانتفاضة ولا للحرب الطائفية. ومع هذا، فإن الصين واصلت الاتصال بالمجلس الوطني، وأبدت رغبتها في دعوته إلى بكين، ويمكن تفسير هذا الموقف انطلاقًا من أن الصين التي أضحت القوة الاقتصادية الثانية في عالم اليوم وجدت أن هذه المنطقة بالغة الاهمية في الاستراتيجية والاقتصاد العالميين ولا ينبغي أن تبقى فيها في مقاعد المتفرجين، وأن يكون لها حضورها السياسي كلاعب دوري رئيسي، في تمهيد واضح لميلاد نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية بدلاً من النظام الأحادي القطبية القائم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي حتى اللحظة، والصين التي تضع قرارات سياساتها الخارجية بتحفظ شديد وجدت أن اللحظة مناسبة لميلاد هذا النظام العالمي الجديد، مع الضعف الاقتصادي الذي أخذ ينتاب الولايات المتحدة بسبب الأزمة المالية العالمية والارتفاع الكبير في مديونيتها الخارجية، والشكوك التي أخذت تحيط باستمرار الدولار كعملة العالم الرئيسية.
إن الصين في الأزمة السورية قد اتخذت موقفًا مغايرًا لمواقفها من أزمات أخرى في منطقة الشرق الأوسط، ففضلاً عن استخدامها المتكرر لحق الفيتو، فقد ابتعثت موفدا خاصا لها في الشأن السوري، وهو الذي برر استخدام الصين للفيتو باتساقه مع سياسة الصين الثابتة ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأهدافها، كما أن الصين في هذه الأزمة أخذت تبادر بمقترحات حلول حيث تتضمن الرؤية الصينية: الوقف الفوري الشامل وغير المشروط لكل أعمال العنف من الحكومة السورية والأطراف المعنية وإطلاقا فوريا لحوار سياسي شامل بدون شروط مسبقة ولا حكم مسبق من الحكومة السورية ومختلف الأطراف تحت الوساطة النزيهة للمبعوث الخاص المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية بشأن الأزمة السورية، وتنص على دور قيادي للأمم المتحدة في تنسيق جهود الإغاثة الإنسانية على أساس احترام سيادة سوريا، وترفض التدخل العسكري ضد سوريا أو فرض ما يسمى تغيير النظام.
وفي الأخير يمكن الإفادة من كل هذا التغير في بنية النظام الدولي عربيا من خلال تحرك الدبلوماسية العربية أكثر نحو بكين أو تعزيز التوجه شرقًا، فضلاً عن أن هذا يكسب هذه الدبلوماسية العربية قدرًا كبيرًا من المرونة وإمكانية تحرر أكبر من الضغوط الأمريكية، وخاصة في الأحوال التي تتعارض فيها المصالح الأمريكية مع المصالح العربية، ولا شك أن عالمًا متعدد الأقطاب هو أكثر ديمقراطية في صناعة القرار الدولي مقارنة بالفترة التي عاشها العالم منذ بداية تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم.
.