قضايا و آراء
«اتفاق الطائف» ومستقبل النظام السياسي اللبناني
تاريخ النشر : الجمعة ٤ مايو ٢٠١٢
المستقبل - وليس المقصود بالطبع تيار المستقبل - كان الغائب الاكبر عن جلسات المناقشة العامة في المجلس النيابي اللبناني، فلقد تناوب معظم النواب على نبش للماضي وشيطنة للحاضر، من دون ان يكون لمستقبل الوطن أي مكان في مناقشات الايام والليالي الطوال، ومن دون ان يكون للرؤى وللمشاريع والبرامج صدى في جلسات كانت عيون الكثير من المتحدثين فيها على ناخبيهم، فيما عقولهم غارقة في استنباط وسائل دغدغة عواطفهم أو إثارة عصبياتهم على انواعها.
لا شك ان المستوى الذي انحدر اليه بعض المناقشات اسفافاً وشتائم وتحريضاً (يمكن بموجبه إحالة اصحابه إلى القضاء حسب مواد متعددة في القانون) سيشكل حجّة قويّة لدى منظري الاستبداد ودعاة التهرب من الاحتكام لصناديق الاقتراع وخاصة أن رئيس المجلس نفسه ـ وهو العارف ببواطن الامور، والمحنك بمرارة الخبرات ـ قد أعلن خيبته مما جرى.
طبعاً لن نجاري هؤلاء المنظرين في يأسهم من الديمقراطية، وسنبقى متمسكين بصندوق الاقتراع كطريق أفضل لتمثيل الشعب، ولكن علينا ان نعيد صياغة القوانين التي تتحكم بآليات الاقتراع بحيث لا يصبح الاقتراع مجرد تعداد طائفي أو آلة حسابات مالية أو مجرد امتداد لفجور اعلامي يستطيع برهة من الزمن ان يجعل الابيض اسود والعكس بالعكس في بلد تطغى فيه هشاشة العصبيات على الصلابة الوطنية.
لقد كشفت هذه المناقشات انه لا يكفي ان يكون لدينا انتخابات حتى تكون لدينا ديمقراطية، بل كشفت أيضاً ان قوانين انتخاب تكرس الاستبداد المالي أو الطائفي أو المذهبي ليست طريقاً لأي تطور ديمقراطي.
واكتشف المواطن اللبناني الذي تجشم عناء متابعة الجلسات النيابية الطويلة ؟ أو الفيلم النيابي الطويل بالاذن من زياد الرحباني- ان مصلحة الوطن وهموم الناس هي الأقل حضوراً في هذه المناقشات، بقدر ما كانت المصلحة الشخصية أو الفئوية الضيقة هي الأكثر حضوراً، وإذا ما تقاطعت هذه المصلحة الخاصة مع مصلحة عامة فيكون ذلك لأن الحديث عن مصلحة عامة يفيد المصلحة الخاصة، ويكفي مثلاً ان يأخذ الحديث عن انشاء بلدية في قرية لا يزيد عدد سكانها على 4 الاف مواطن وقتاً اكثر من الحديث عن تسليح الجيش الوطني الذي لا ننفك عن الحديث عن ضرورة بسط سلطته على كل الارض اللبنانية، ولكننا في الوقت نفسه لا نتورع عن تعطيل أي مبادرة جدية لتسليحه كما حصل مع مبادرة رئيس الجمهورية التي أطلقها إثر معركة العديسة الشهيرة قبل عامين فطواها النسيان.
فهل هي مسؤولية النائب وحده في استخدام اسلوب الاثارة الطائفية والمذهبية والفئوية، ام انها مسؤولية الناخب ايضا الذي يشجع على اعتماد مثل هذا الخطاب، ويطرب له، من دون ان يدرك الثمن الباهظ الذي سيدفعه مستقبلاً من حياته وحياة عائلته اذا ما تمادى هذا الخطاب واتسّع افقيا، وتعمّق عموديا، فتصبح حياتنا الديمقراطية مجرد اعادة انتاج لحروبنا الأهلية بدلاً من ان تكون سبيلنا إلى الخلاص منها؟
وبغض النظر عن ملاحظات جوهرية وثمينة يمكن ان تساق بحق اتفاق الطائف، الا انه من اللافت ان أشد المتحمسين لهذا الاتفاق كلاميا، هم اكثر المتهربين من مفاعيله الكبيرة والمفصلية وأبرزها من دون شك اعتماد النسبية والدائرة الكبرى في قانون الانتخاب، كما في امور أخرى لا تقل اهمية كتجاوز الطائفية السياسية، وأسس العلاقة بين لبنان وسوريا.
لقد تهرب مجلس النواب اللبناني، على مدى عشرين عاماً، وفي عهود متعددة ومتناقضة، من تطبيق النص الدستوري الخاص بقانون الانتخاب، وكان يجد لتهربه عذراً في كل مرة، ووقع هذا المجلس ؟ في ولايته السابقة ؟ بالخطيئة الكبرى حين عاد إلى اعتماد قانون 1960 الذي رأى فيه العديد من الساسة والمفكرين سببا رئيسيا من الاسباب الداخلية لاندلاع الحرب في لبنان وعليه.
ان جلسات الايام والليالي الطوال النيابية قد كشفت عقم نظام ما بعد الطائف، وقد كشفت ان تصحرا سياسيا واخلاقيا قد بات يجتاح الحياة النيابية والسياسية، ناهيك عن جفاف غير مسبوق في الكفاءات والقدرات والمواهب قد غزا المتبارزين في الندوة البرلمانية ؟ ما عدا قلة منهم ؟ كما كشفت هذه الجلسات ان هذه الندوة ؟ لولا حكمة رئيسها وتعاونه مع عقلاء في المجلس ؟ كادت تتحول بسرعة إلى حلبة ملاكمة أو حلقة مصارعة بالمعنى الحرفي للكلمة ليخرج كل ملاكم أو مصارع إلى جمهوره رافعاً يديه وقائلاً: «كيفني معكم ؟».
اما الضربة القاضية لهذه المناقشات فكانت في انسحاب المعارضين من التصويت على حجب الثقة عن حكومة لم يتركوا فيها «ستراً مغطى» ؟ كما يقال بالعامية- ووفق اقتراح تقدّم به ممثّل حزب رئيسي في هذه المعارضة، فيما فسر كثيرون هذا الانسحاب بأنه محاولة لعدم كشف العدد الملتزم فعلاً في صفوف المعارضة، وهو انسحاب حصل في جلسة الثقة نفسها، مما يخرق تقليدا ديمقراطيا متعارفا عليه في كل بلدان العالم، وهو مشاركة الجميع، موالاة ومعارضة، في التصويت، ليعرف الرأي العام مدى تقدم الفريقين أو تراجعهما عن التصويت السابق.
في جميع الاحوال، تؤكد هذه الجلسات اهمية حدوث تغيير حقيقي وعميق في نظامنا السياسي بكل تجلياته، وتؤكد ان نقطة البداية في هذا التغيير تكمن في قانون انتخابي جديد، مختلف جذريا عن القوانين المعتمدة منذ الاستقلال، نجرّب من خلاله النسبية، وقد كان الشهيد كمال جنبلاط اول من طرحها، بل النسبية التي تهرب المشرع اللبناني منها سابقاً لاسباب معروفة، ويبدو ان البعض اكتشف سبباً جديداً للتهرب منها اليوم هو «السلاح».
فهل سيأتي غداً من يقول «لا انتخابات في ظل السلاح»؟ والله اعلم.
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي