الإبادة الجماعية
 تاريخ النشر : السبت ٥ مايو ٢٠١٢
بقلم: د.إسماعيل محمد المدني
أكثر من سبعة ملايين من الخَفافِيش في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا قضت نحبها حتى الآن منذ عام ٢٠٠٦، وهناك الملايين الأخرى التي تنتظر مصيرها المؤلم بين عشيةٍ وضحاها، وأكثر من ٣,٧ بلايين دولار هي الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها المزارعون والفلاحون بسبب هذه الإبادة الجماعية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، إضافة إلى الخسائر البيئية التي لا يمكن أن نعدها أو نحصرها حتى الآن بمبالغ نقدية محسوبة.
هذه الملايين من الخفافيش التي تموت كأنها انتحار جماعي، حيرت العلماء وأثارت في نفوسهم القلق العميق من جهة، والرغبة الشديدة من جهةٍ أخرى لسبر غور هذه الكارثة العامة لهذا النوع الحيوي من الحياة الفطرية ومعرفة أسباب وقوعها.
فقد تم اكتشاف هذه الظاهرة أولاً في ولاية نيويورك عام ٢٠٠٦، ثم انتشرت إلى ولايات أخرى معظمها تقع في شمال شرقي أمريكا، حتى بلغ ٢٠ ولاية، وامتدت كذلك إلى أربع مقاطعات في كندا، بل هناك تخوف شديد من العلماء من انتشار هذا الوباء الرهيب القاتل إلى الدول عبر المحيط، مثل بريطانيا، حسب تصريحات الوقف البريطاني لحماية الخفاش
)tsurT noitavresnoC taB KU(، الذي وصف هذه الطامة الكبرى بأنها أسوأ كارثة تضرب الحياة الفطرية.
والآن وبعد مضي أكثر من ست سنوات على هذه الظاهرة الغريبة الغامضة، وبعد بحوثٍ مضنية جبارة، وجهود حثيثة دقيقة من العلماء، اكتشف السر الخفي، وعُرف السبب، فقد جاء الجواب الشافي من فريقٍ من علماء الأحياء من جامعة ويني بج
)gepinniW fo ytisrevinU( الأمريكية، ونُشر في مجلة وقائع الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم )ecneicS fo ymedacA lanoitaN eht fo sgnideecorP( في ١٩ ابريل .٢٠١٢
فالخطوة الأولى في حل اللغز تمثلت في معرفة الجاني والمتهم في هذه القضية الفطرية، حيث اكتشف الباحثون أن هذا الموت الجماعي للخفافيش كان وراءه كائن بسيط وصغير في حجمه وهو من أنواع الفطريات واسمه العلمي )snatcurtsed secymoeG(.
ثم جاءت الخطوة الثانية لتحاول الإجابة عن السؤال التالي: من أين جاء هذا الكائن الفطري، وكيف وصل إلى كهوف الخفافيش النائية؟
الإجابة عن هذا السؤال لم تكن سهلة، فقد استغرقت وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً ومالاً وفيراً، حتى وصل العلماء أخيراً إلى أن هذه الفطريات ليست محلية، أي أنها ليست من بيئة الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما غزت أمريكا عن طريق الزوار والسياح الذين حملوا هذا الكائن الدخيل معهم، وأثناء زيارتهم لمواطن ومستعمرات الخفافيش في الكهوف والمناجم القديمة قاموا بنقله إليها، فتأثروا مع الزمن بها، وأول ظاهرة انكشفت على الخفافيش هي تحول أنوفها وجلودها إلى اللون الأبيض، فأطلق عليها بظاهرة «الأنف الأبيض» )emordnys eson-etihW(، فهذا الكائن الفطري المُعدي يضرب ضربة قاضية للخفاش أثناء نومه العميق في فترة البيات الشتوي، فيؤدي إلى ظهور انتفاخٍ أبيض اللون على أنفه وجرحٍ عميق في الأجنحة، ويسقط بعدها صريعاً فينتقل المرض إلى الآلاف من الخفافيش الموجودة معه في الكهف، فتسقط واحدة تلو الأخرى.
وهذه الإبادة الجماعية للخفافيش لها تأثيرات جذرية في النظام البيئي بشكلٍ خاص، وفي المزارعين والناس بشكلٍ عام، فالخفافيش تعتبر مبيدات حشرية طبيعية، فهي تلتهم في كل سنة مئات الآلاف من الحشرات الضارة والآفات المرضية التي تدمر المحاصيل الزراعية، فتوفر ملايين الدولارات على المزارعين الذين يستعملون عادةً مبيدات حشرية كيميائية فتضر بالبيئة والإنسان، وعلاوة على هذا الدور الكبير للخفافيش، فإنها تعمل أيضاً على نشر حبوب اللقاح وبذور النباتات بشكلٍ طبيعي.
فكل هذه الفوائد البيئية والاقتصادية التي يجنيها الإنسان من وجود الخفافيش قد ذهبت مع الريح بسبب غزوِ كائنٍ دقيق لا يرى بالعين المجردة لبيئةٍ غريبة عليه، مما يؤكد لنا ضرورة الاهتمام بقضية عامة قد نبهت إليها عدة مرات وهي قضية «الكائنات المُجَنسة» أي التي يتم إدخالها إلى بيئتنا بأيدينا وبرغبتنا وتحت إشرافنا المباشر، و«الكائنات الغازية» التي تدخل البيئة من دون علمنا، فآثارها وخيمة وكارثية في الإنسان وبيئته.
.