قضايا و آراء
من مفكرة سفير عربي في اليابان
فن الأسطورة و«الربيع العربي» (3)
تاريخ النشر : السبت ٥ مايو ٢٠١٢
ولنكمل كتابتنا بشأن حوارنا مع الأخ أحمد، عن مشكلة الخلط بين العلم والدين والاسطورة، التي تحدثت الكاتبة البريطانية كارن أرمسترونغ عنها بالتفصيل في كتابها الأسطورة، فتؤكد الكاتبة أن الأسطورة هي نوع من الفن الذي ينظر الإنسان من خلاله لما وراء حوادث التاريخ ودراسته، وقد كانت خبرة السمو لما وراء الواقع المادي رغبة ونشوة إنسانيتين دائمتين، ويرفع الإيمان الديني الإنسان لهذا السمو النفسي المترافق بنشوة روحانية تطير بالإنسان لما وراء واقعه الحياتي. وحينما فقد البعض نشوة الإيمان في واقعه المادي توجه للإحساس به من خلال الأدب والشعر والموسيقى والرياضة.
والأسطورة هي كالقصة والأوبرا والباليه، تصور يمجد عالمنا المنقسم والمأساوي، ويساعدنا على أن نتأمل احتمالات وتساؤلات جديدة، وقد يؤدي لاكتشافات علمية وتكنولوجية مهمة، فالاسطورة هي حقيقة، ليس لأن وقائعها حقيقية، بل لأنها مؤثرة في إعطائنا العمق للنظر للواقع المادي والاستلهام للإبداع لإيجاد مستقبل أفضل.
والاسطورة هي دليل يوجهنا للتعامل مع الحياة بتناغم وغناء روحيين جميلين، كما تساعدنا على اكتشاف خبايا العقل الإنساني الذي لا يمكن إدراكه، وهي بداية لعلم النفس، فقصص الابطال والالهة الموجودة ما وراء عالمنا، التي تحارب الجن والأشباح، أبرزت خفايا سيكولوجية الإنسان، وعلمتنا كيف نتعامل مع أزمات الإنسان النفسية الداخلية.
وبدأت حياة الإنسان بعصر الصيد منذ أكثر من عشرين ألف عام، واعتقد الإنسان بآلهة السماوات المراقبة والمحاسبة لأخطائه من خلال الكوارث الطبيعية، كما تمثل السمو الروحي بالسماء والجبال المقدسة. وانتقلت البشرية لعهد الزراعة في الألفية الثامنة قبل الميلاد، فعرف الإنسان فائدة الأرض والري، وبرزت مع العصور الزراعية آلهة السماء، فعرفت في سوريا الهة الاشيرة، وفي بلاد ما بين النهرين الهة اينان، وفي مصر الهة البايسس، وفي اليونان آلهة هيرا وديميتر وافرودايت. ومع بداية عصور الحضارة العمرانية في بلاد ما بين النهرين ومصر والصين والهند وجزيرة كريت، بدأ العمل على بناء المدن وتشكيل الولايات. واستمتع الإنسان بنشوة السيطرة والقوة، فبدأت الخلافات بين الولايات، ونزلت لعنة الطمع والعنف والحروب.
وقد اعتبر أهالي الهلال الخصيب أن مدنهم هي المكان المناسب لملاقاة الآلهة فحولوها لجنان الأرض، فبدأت تقطن الآلهة المعابد في داخل المدن بجانب البشر فتقارب الإنسان مع آلهته، وقد عانت حضارة ما بين النهرين وحضارة مصر فيضانات الأنهار، واعتبرتها شعوبهما غضب الآلهة، فقدمت القرابين لتهدئتها، وبرزت الآلهة من المادة المقدسة غير المحددة، فامتزج الملح مع الماء المر، ولم تكن السماوات والأرض والبحار مفصولة عن بعضها، كما كانت الآلهة من دون شكل أو اسم أو مستقبل. وقد كانت أوائل الآلهة التي برزت من المزج غير منفصلة عن المادة المبهمة: فابسو كان إله الماء النهري، وتيمت إله البحر المالح، والمومو إله السحب الضبابية. وقد تشكلت من هذه الآلهة المبهمة آلهة جديدة، توضحت معالمها وبدأت تنفصل أجزاء الكون عن بعضها بعضا، فانفصلت السماء عن الأرض، وبدأت تنفصل اليابسة عن البحار والأنهار، وبدأت تتشكل الآلهة من مزيج من الماء والطين وسميت اللاهمو والاهامو، وبعدها انشير وكيشار، وتعني أفق السماء والبحار، ومن ثم آلهة السماوات انو، والهة الأرض إياه. وقد كانت الآلهة الجدد أكثر نشاطا، فابسو غطس في قاع الأرض، واينو وإياه بنيا قصورهما مع المعابد وقاعات المدن، وتحولت آلهة التيمت إلى آلهة خطرة وأوجدت وحشات ممسوخا للانتقام من ايبسو، وبرزت آلهة مختلفة في بلاد الهند والصين.
ومع التطور بدأت الآلهة تبدو بعيدة عن البشر، وبدأ الإنسان العمل للتعامل مع الأزمات الطبيعة، وانتشرت القصائد والأشعار، ومن أشهر القصائد هي أسطورة جلجامش، التي يرجع تاريخها إلى عام ألفين وستمائة قبل الميلاد.
واستمر تطور مفهوم الآلهة والدين عند الإنسان، فبرزت الهندوسية فالبوذية فالأديان السماوية اليهودية فالمسيحية فالإسلام، وبدأت تنتشر المؤسسات الدينية، وتزداد قوتاها المادية والمعنوية، وعملت القوى السياسية على الاستفادة من هذه القوة السياسية الجديدة، كما التفتت القوى الحاكمة لخطورة بدء سيطرة المؤسسات الدينية السياسية على عقول الأفراد، فعملت على فرض سيطرتها والاستفادة منها لتقوية مواقعها المجتمعية، فتداخل الدين بالسياسة، واستغل أهل السياسة الدين لمصالحهم، وبدأت تصدر قرارات سياسية في صياغة دينية، وتوسع غزو البلدان باسم الدين، فتطور الاستعمار، وبدأت الحروب، فعاشت البشرية معاناة الغزو، والاستعمار، والتفرقة العنصرية، والعبودية.
ومع بدء الثورة الفرنسية عام 1789، بدأت حركة التغير في المجتمعات الأوروبية، وترافقت مع تغير الأنظمة الحاكمة والسياسات والايديولوجيات المرافقة لها، فانتهى حكم الإقطاع، وصودرت أموال الكنيسة، وألغيت جميع المميزات السياسية التي كان يستمتع بها رجل الدين، وتحول لفرد عادي ضمن المجتمع المدني الجديد، وبدأت تبرز الايديولوجيا الدنيوية، وبهتت المؤسسات الدينية وقياداتها، وترافقت هذه التغيرات السياسية بالتطور العلمي والصناعي، واكتشف الإنسان أن التطور المادي العلمي سيسخر القوى الطبيعية لخدمته، فضعفت المفاهيم والقيم والأخلاقيات الدينية، وبرزت الأفكار المادية والقومية والماركسية، وبدأ صراع السلطة في أوروبا من جديد، واستمرت إرهاصات الثورة الفرنسية، حتى برز الإمبراطور نابليون بونابرت بعد انقلاب عام 1804، لتبدأ حروب أوروبية متتالية لم تنته إلا بمعاناة ودمار الحرب العالمية الثانية، مع قتل مائة وخمسين مليونا من سكان الأرض.
واكتشفت أوروبا، بعد تجارب مريرة قاسية، ان لا سلام ولا تنمية بلا ديمقراطية، ووعت أهمية فصل الدين عن السياسة، فعملت بجد واجتهاد لتطوير نظمها الديمقراطية، وقررت أن تتجنب الحروب المستقبلية، فوحدت جهودها الصناعية والاقتصادية في سوق أوروبية مشتركة، ومنها للاتحاد الأوروبي.
كما بدأ بروز قوى جديدة بعد الحرب العالمية الثانية كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، واستمر الصراع بينهما بحروب مختلفة ساخنة وباردة، ولم تنته هذه الحروب إلا بزيارة الرئيس السوفيتي جورباتشوف لفرنسا، ليكتشف خلال زيارته أن التنمية الحقة تحتاج إلى الديمقراطية، فبدأت منذ ذلك الحين التحولات الديمقراطية الروسية، لتنفرد الولايات المتحدة بجبروت السلطة في العالم، ومنها دخلت الولايات المتحدة في حروب تلو الحروب، ليبدأ أفول جبروتها، مع بدء الألفية الثالثة، ومع بدء ظهور قوى عالمية جديدة، ليترافق مع بروز اقتصاد سوق العولمة.
فتلاحظ عزيزي الأخ أحمد أن تاريخ البشرية مر بتجارب مرة، ليكتشف الإنسان أن لا أمان ولا استقرار ولا تنمية إلا بحرية الفكر والديمقراطية. فلم تنفع الاستفادة من ديكتاتورية السياسة بالفكر الأيديولوجي أو القومي أو الديني أو الطائفي في إدارة السياسة الدنيوية، فأين سلطة الكنيسة البابوية؟ وأين هتلر وموسوليني؟ وهل ستستوعب دولنا عبرة تاريخ العالم وأخطائه؟ وهل سيستوعب الشعب الإيراني والتركي والعربي هذه الدروس؟ وهل سنستفيد من تجربة الحروب، والعنف، والدمار، وخسارة الأرواح، وضياع التريليونات من الدولارات، بسبب أفكار قومية شوفينية بالية؟ وهل سيتوقف هؤلاء الذين يستغلون اسم الدين، لتحقيق مصالح سياسية آنية وزائلة، بنشر الحقد، والطائفية، وتدمير العقول، ومنع الحداثة والتنمية في المنطقة؟
الا يكفي ما نشروه من دمار، وكراهية، وانتقام، وفقر، وجهل؟ وهل ستعمل شعوب المنطقة لتطوير الديمقراطية والتنمية معا، وبذل الجهد لتطوير سوق اقتصادية مشتركة، لتحويلها لسوق صناعية واقتصادية مستقبلا؟ وهل من الممكن أن تتطور هذه السوق إلى اتحاد اقليمي مستقبلي، ليحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة للأجيال القادمة؟
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان