حين لا يكون الإنسان معياراً للتقدم!
 تاريخ النشر : الأحد ٦ مايو ٢٠١٢
بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح
اهتم الإسلام اهتماما عظيماً بالإنسان جنيناً في رحم أمه، وطفلاً يحبو بين يدي والديه، ومراهقاً تتقاذفه أشواقاً المراهقة يميناً وشمالاً، وشاباً يافعاً يرنو إلى المستقبل ليرى أحلامه التي يريد أن يحققها، ثم رجلاً يتحمل مسؤولية أسرة ووطن، لهذا كانت تربية الإنسان صناعة ثقيلة، وإعداده ليكون عماداً لأهله ووطنه، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة البالغ ثلاثاً وعشرين سنة، قضاها في إعداد الإنسان، وتربيته، وغرس المبادئ الإسلامية العظيمة التي جاء الإسلام ليقيم أسسها، ويعلي أركانها.
منذ البداية، وقبل أن يكون هناك أولاد حض الإسلام على اختيار الزوجين كل للآخر، وبيّن الأسس المكينة التي يجب أن يقوم عليها صرح الأسرة، فقال للشباب: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فأظفر بذات الدين تربت يداك» متفق عليه.
وقال لأهل الفتاة: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» الترمذي وأحمد، حديث حسن، جاء في تهذيب التهذيب، الصفحة أو الرقم ٣/.٧
ثم شرع الإسلام جملة من النظم لرعاية الأبناء في شتى مراحل حياتهم.
ثم بعد ذلك جاء الإسلام ليحمي حقوق الإنسان، ومنها: حق اختيار العقيدة التي يؤمن بها، وحق الحياة، وحق حماية العرض، وحق حماية المال، وحق صيانة العقل، وهي التي جمعها العلماء تحت عنوان: «الضرورات الخمس» وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.
بعد أن أقر الإسلام هذه الحقوق للإنسان، جعل لها من الأحكام الفقهية ما يحافظ عليها، وييسر لها سبل تحقيقها، لتكون عوناً للإنسان على القيام بالمهمة التي خلق من أجلها وهي العبادة في الأرض، كما قال سبحانه: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات ٥٦).
لهذا صار الإنسان في الإسلام هو المعيار الذي نرصد من خلاله حضارة أي أمة، ومدى تقدمها، من هنا ندرك الفرق بين حضارة الإسلام والحضارات الأخرى، فحضارة الإسلام حضارة إنسان، أما الحضارات الأخرى، فهي حضارات بنيان، حتى أنهم بلغوا في العدوان على الإنسان أنهم اخترعوا قنابل تقوم بتفريغ الهواء، فتقضي على الإنسان، وتبقي على البنيان.
هكذا أصبح الإنسان في الحضارات المادية (المتقدمة) رخيصاً، لا قيمة له، ولا تحترم حقوقه، أما في حضارة الإسلام، فإن الإنسان فيها يحتل مكانة عظيمة، حتى أن زوال الدنيا كلها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن بغير حق.
يقول رسول الله: (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه البراء بن عازب (رضي الله عنه): «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق» المصدر: البدر المنير، الصفحة أو الرقم ٨/٣٤٧، حديث إسناده صحيح.
وعندما يصبح الإنسان وحقوقه وحياته أقل المعايير في نظر القوانين الوضعية، فلا يلتفت إلى حقوقه التي صانها الإسلام، وشدد النكير على التفريط فيها، والتهوين من شأنها يصبح ذلك وصمة عار في جبين الحضارة، وسبة تهون من كل تقدم يزهو به أصحاب هذه الحضارة.
إن الاحتفاء بالفعّاليات التي تقام بين وقت وآخر في هذا البلد أو ذاك، واعتبار ذلك هو المعيار الحقيقي لانتشار الأمن بين ربوع البلاد، وإهمال الإنسان وعدم جعله معياراً يستدل به على استقرار الأمن، هذا التصرف ينم عن قصور في الفهم، وخلل في التفكير السليم يترتب عليه ضياع حقوق الإنسان، والاستهانة به وبمكانته بين الكائنات حيث كرمه الله تعالى، وفضله على باقي الكائنات، قال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (الإسراء/٧٠).
والقول إن الوضع الأمني في هذا البلد في أحسن حالاته ليس لأن الناس آمنون على أرواحهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، بل لأن مجموعة من الفعّاليات قد نجحت وحققت أهدافها المرسومة لها، وأن القائمين عليها قد نجحوا بإتمامها من دون أن يحول بينهم وبين ذلك حائل، أو يعطل مسعاهم أي جهة تريد الشر لهذا البلد أو ذاك، ونضرب مثالاً على ذلك ما حصل للأم وطفلها اللذين تم تفجير اسطوانة الغاز في منزلهما، فأصابهما بأضرار بالغة وسط احتفالات البلاد بنجاح سباقات الفورمولا واحد، فهل صارت مثل هذه الفعّاليات مقدمة على الإنسان كمعيار لاستتباب الأمن، وخروج البلاد من أزمتها الطاحنة التي تمر بها البلاد؟
هل يكفي نجاح سباق السيارات، وإقامة مهرجانات ربيع الثقافة، أو المعارض التي تستضيفها البلاد بين وقت وآخر معياراً حقيقياً على استتباب الأمن في ربوع البلاد؟
إن الإنسان في ميزان الإسلام هو المعيار الحقيقي لأي تقدم في أي مجال من مجالات الحياة، في الأمن، والاقتصاد، والتعليم، والثقافة.
مستوى دخل الفرد هو المعيار الذي يقاس عليه تقدم هذه الدولة أو تلك في مجال الاقتصاد، ومخرجات التعليم.
والإنسان هو المعيار لتقدم أي دولة في مجال الأمن حين توفر لشعبها ما يحتاجون إليه من أمن وأمان في المجالات الثلاثة: الأمن الاجتماعي، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» رواه عبدالله بن محصن الأنصاري وأبو الدرداء وعبدالله بن عمرو وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً، ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم ٢٣١٨، وقال حسن لشواهده.
إن أي معيار آخر يعتمد عليه لإثبات نجاح أي دولة فيما تقدمه من خدمات لمواطنيها لا يعتد به، ولا يعول عليه، ويظل الإنسان هو المعيار الوحيد الصحيح، والميزان الذي لا يخطئ لإثبات تقدم أي دولة، وتفوقها على مثيلاتها في المجالات الثلاثة التي ذكرناها، والتي أكدها الرسول( صلى الله عليه وسلم) في الحديث السابق، وما جاء في هذا الحديث هو أهم ما تعنى به الدولة من أجل راحة الإنسان، وتحقيق الأمن له، أما ما دون ذلك من معايير فلا يعوّل عليها، ولا تثبت كفاءة الدولة في رعاية مصالح الناس، وتحقيق طموحاتهم.
وها هو الحق سبحانه وتعالى يؤكد في وحيه المبارك أن أهم ما يحتاج إليه الإنسان في حياته الأمن الاجتماعي والأمن الغذائي، وذلك في قوله تعالى: «لإيلاف قريش(١) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف(٢) فليعبدوا رب هذا البيت (٣) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف(٤)» (الناس).
ويذكر التاريخ الصادق أنه من تجليات عدل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) التي تؤكد عظيم اهتمامه بالإنسان كمعيار لنجاح أي حاكم في إدارة شئون رعيته قصة القبطي الذي شكا ابن واليه على مصر الذي ضربه بغير وجه حق فاقتص له عمر من ابن عمرو بن العاص، وقصة المرأة القبطية التي أخذ عمرو بن العاص (رضي الله عنه) بيتها ليوسع به المسجد، فشكته إلى عمر، فاقتص منه الفاروق، وأرجع حقها إليها، وقصة اليهودي الذي رآه عمر يسأل الناس، فأمر خازن بيت المال أن يصرف له راتباً شهرياً، وأن يجعل له قائداً يقوده بعد أن فقد بصره، وقال له: ما أنصفناك أخذنا منك في قوتك وتركناك في ضعفك، وقال لخازن بيت المال: انظر هذا وأمثاله وأجر لهم ما أجريت لهذا.
نلاحظ أن الأمثلة السابقة كلها اتخذت من الإنسان معياراً لحسن أداء الدولة لمسؤولياتها.
وقبل عمر كان أبوبكر الصديق (رضي الله عنهما)قد قال للناس يوم توليه الخلافة: «أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت، فأعينوني، وإن أسأت، فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه».
كذا أعلنها قوية مدوية انحيازه للإنسان كمعيار يستدل به على كفاءة النظام، وتوفيقه في القيام بأعباء الدولة.
وهكذا كانت دولة الإسلام قد جعلت الإنسان معياراً لنجاحها أو فشلها في إدارة شؤون الأمة، وتحقيق الأمن والرفاهية لها.
.