أفق
ميلاد سياسي فوضوي لشعوب عربية
تاريخ النشر : الثلاثاء ٨ مايو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تفجر الثورات العربية كانت لها أسباب عميقة، فقد عجزت رأسماليات الدول الشمولية عن التطور مع العصر، وكان هذا الشكل السياسي التعجيلي غدا أسلوبَ إنتاج عالمي شرقي ووصل إلى أزمة عميقة خانقة تطايرت بعده أجزاؤه وأشلاؤه في المدار الكوني، وقد دخلتْ تياراتٌ عديدة سياسية عربية في الترويج له، لكن قوى مذهبية سياسية ذات مرجيعات إسلامية لم تشاركْ في الانخراط في عملياته التي استمرت أكثر من نصف قرن.
تأييد العديد من التيارات الشمولية لرأسمالياتِ الدول في الشرق حجّر مفاهيمها السياسية الفكرية، وراح بعضُها يطبق هذه التيارات حتى في دول لا تمتلك حتى دراجات، أو تعيش نساؤها في العصر الوسيط.
تحجرُ مفاهيم هذه القوى وقد امتلكت مناهج درس وحفر هامة يعود لعدم فهمِها للرأسمالية وضرورتها، أي لعدم فهمها كتشكيلة تاريخية عالمية لها قوانينها وطرق تطورها وذبولها التدريجي الموضوعي القائم على قوانين السوق وتطور الوعي البشري، وأحلوا إراداتهم الذاتية محل الضرورات.
هذا أدى إلى عدم تراكم القوى الديمقراطية الحديثة في كل بلد، فيأتي اليسارُ ليضرب الليبرالية وهي حليفته في نمو الأسلوب الحديث، أو ليهمشها ويخوفها، ويطرد الرأسمال الخاص من الأسواق أو يؤممه ويقضي عليه. فيما توجه أنصاف الليبراليات المتحالفة مع الشموليين الدينيين ضرباتها لليسار وهو الذي يفترض أن يدعمها في التحول الحديث.
العملية الفكرية المصاحبة للشمولية من إلغاء للبذور الديمقراطية والليبرالية وعدم تصعيدها وتعاونها، تؤدي إلى إنهاك اليسار وذوبان هياكله، وعدم تبصره بتحليل الواقع الموضوعي، ووصول بقاياه إلى محفوظات وتغدو حفائر أثرية.
لكن الواقع من جهة أخرى لا يتوقف عن الصراع، فرأسماليات الدول في المدن الرئيسية تقلبُ حال الأرياف والمناطق الرعوية والحرفيين، وتمركزُ الثروةَ في تلك المدن الرئيسية ولدى أحزاب وعائلات وأفراد، وتوجد في المدن نفسها قوى هائلة من المقتلعين والمهمشين يجدون في الوعي الديني غير الكاشف لقوانين وسببيات التطور ملاذهم وهو يقودهم إلى مآس جديدة.
وإذ عجز الفكر اليساري عن الحضور في هذه العمليات التحولية، بسبب مشاركته في الفساد، أو لصراعه مع هذه الرأسماليات من منطلق إلغائها إذا كانت يمينية، وحدوث تحولات عولمية واسعة غير معقلنة وديمقراطية، تنتعش الأفكار الدينية وتنتشر بين الجمهور الضائع في اضطراب الرأسماليات هذا، ويغدو الفكر القَدري مطلوباً مع ضياع البوصلات الواقعية التقدمية، وتَستخدم القوى التقليدية ما تجمع لديها من رأس مال في توسيع تنظيماتها ونشره بين المحطمين والمأزومين من فوضوية رأسماليات الدول الشمولية، الذين يعودون إلى عباداتهم وينفخون فيها طابع المعارضة والتغيير السياسي من دون برامج عميقة وفهم لقوانين التشكيلة الرأسمالية التي يعارضون شكلا منها، ليحضروا شكلا آخر غير واضح وغير مدروس.
ربح الدينيون ممثلو القوى التقليدية نتائج الصراع بين القوى التحديثية المتضادة، ولكن إلى أين؟
الشهور التي مرت قدمت نتائج سلبية عن قدرة هذه الجماعات الدينية على إيجاد ديمقراطية وتجميع الصفوف نحو جبهة اقتصادية نهضوية وليس التكالب على السلطات وإجهاض الجبهات والتحولات الديمقراطية.
ومجيئهم من مستويات متعددة متخلفة في بنى هذه الرأسماليات أعجزهم عن التعبير عن ثورة القطاع الخاص التحديثية المنتظرة وأربك العمليات السياسية كلها، فالسلفيون يأتون من عالم بدوي لم تتغلغل به العلاقات الرأسمالية الحديثة وخاصة في الحياة الاجتماعية والفكرية ويطرحون أجندة مخيفة، فيما الإخوان يأتون من مدن صغيرة لايزال طابع الحداثة فيها غير مهيمن، ولكن الكثير منهم في بلدانهم نأوا عن رأسماليات الدول ذات الطابع (الاشتراكي) أو التحديثي. وهذا أدى إلى تصعيد رأس المال الخاص الذي غذته دولُ الخليج كذلك ولكن وجهته بشكل محافظ كما يتم دفع الملايين لهذه الجماعات من خزائن شعوب الخليج في هذه الأيام، وحين تتقوى سوف ترتدلا على دول الخليج وخاصة وتبتزها وتقوي نمطية الطفيليات الرأسمالية التي عاشت عليها هذه الجماعات الدينية والتي لم تصعد على التصنيع والعلوم.
وضخامة السلفية والتيارات المحافظة الأخرى يعبر عن بقاء الريف الضخم والمناطق العشوائية في عوالم تقليدية ذات العبودية للنساء والفلاحين. فكيف يمكن لهؤلاء أن يصعدوا لمهام الثورة الصناعية والعلمية كما فعلت تجارب جنوب شرق آسيا الإسلامية؟
في حين عبرت سوريا عن المعركة الأصعب والأكثر دموية في الانتقال من رأسمالية دولة فاشية إلى المجهول حتى الآن، وصار الاستيلاء على المدينتين البرجوازيتين حصالتي الدم السوري لنصف قرن دمشق وحلب هو ذروةُ وانتصار الثورة الشعبية.
وقد جاء تطور الاثني عشرية معاكساً للتطور العالمي، ففيما الشعوب تتجاوزُ رأسماليةَ الدول الشمولية وقعتْ أقسامُها السياسية المؤثرة في المذهب عامة، في هيمنة رأسمالية دولة إيرانية متأخرة زمنياً ومتخلفة فكرياً، ومصعَّدة تناقضاتها لمرحلة أعلى خطرة.
هذا يعبرُ من الناحية التاريخية عن قيام المذاهب الإسلامية الرئيسية ككل ذات الجذور الطويلة في التجارة الخاصة بإعادة تجديد لهياكل اقتصادية عامة بيروقراطية، وهذا يحدث في المناطق التي لها تقارب مع الحداثة، وللحركات المذهبية السياسية فيها علاقات مع البنوك والشركات، لكن عبر مستويات شديدة التخلف، ويكفي مؤشراً على ذلك ضآلة أنصبة القوى الليبرالية واليسارية والديمقراطية الحديثة في المجالس التشريعية وفي الحياة السياسية.
فيما كان يُفترض أن تُصعد الثورات الشعبية اليسار والليبراليين كممثلين للرأسمالية الحديثة حيث التعاون بين قطاع عام ديمقراطي قائد وقطاع خاص منتج متعاون معه، فقفز أناس لا علاقة لهم ببرنامج التطور الحديث وعبر حشود العامة المُغيَّبة الوعي الديمقراطي الحديث، وأُدخلت الثورات في صراع الحصص، وكي يفهم الدينيون موقعهم بأنهم خارج التاريخ الحديث، وأن عليهم الدخول فيه من أبواب الاقتصاد والطبقات وبرامج التصنيع، لا من أبواب الحلال والحرام، ومنع الغناء والحفلات. فيجب ألا يكرروا مأساة إيران ولكن في قسم آخر من العالم الإسلامي.
لايزال أمام اليسار والليبراليين ومختلف القوى الديمقراطية الحديثة إمكانية تجميع القوى والتركيز على التغيير الاقتصادي الجماهيري، وطرح برامج مشتركة تحويلية وجر الدينيين إلى قضايا العدالة والحداثة وتبديل الإنتاج.
وتكفي كل دروس الصراع السابقة بين القوى الحديثة وما جرى بعدها من تصعيد قوى التخلف والتمزيق للأمة العربية والأمم الإسلامية