قضايا و آراء
التصعيد ونقل المفاوضات لبغداد هل يعكسان بداية تغيير في سياسة طهران؟
تاريخ النشر : الثلاثاء ٨ مايو ٢٠١٢
في هذه المرحلة تتداخل ملفات الصراع في المنطقة بشكل سريع وقلق بحيث يُصبح من الصعب الحكم على نتائجها من خلال مؤشراتها الطافية على السطح، ومن تلك التداخلات التي من الواضح انها تُخفي خلفها ما هو أعمق من ظاهرها من صراع سياسي بين الأطراف، ذلك التراشق الأخير بين اردوغان والمالكي ثم تصريحات الجانب التركي بشأن التلويح بإيعاز مسؤولية حماية الحدود بين تركيا وسوريا لحلف الناتو الذي تعد تركيا جزءا من منظومته، مما يعني التلويح بإيجاد قوات أجنبية من خارج المنطقة على الحدود السورية وهو ما دفع بالجانب السوري للرد وزيادة الاستنفار تجاه تركيا بسبب تلك الدعوات، وخصوصا أن الجانب السوري في هذه المرحلة يشعر بتعدد المحاور السياسية المتآمرة عليه من داخل المنطقة ثم تأتي التصريحات الإيرانية المتهمة للجانب التركي بأنه يتحرك كعدو من داخل المنطقة ولا يعمل لصالحها، أضف إلى ذلك تزامن ما يدور في الواقع العراقي من سعي بعض الكتل لتشكيل تحالف يسعى لسحب الثقة من حكومة المالكي وذلك التحالف الملوح به مكون من الأكراد والتيار الصدري والكتلة العراقية، ثم يأتي الحدث الأكثر بروزا في المشهد وهو زيارة نجاد للجزر العربية وسعي إيران لوضع صورايخ ومنظومة عسكرية بتلك الجزر.
كل تلك الملفات في واقع الحال إن قُرئت أسبابها بشكلها الطافي على السطح فإنها لن تُعطي إلا مؤشرا لردود أفعال متشاكسة وهو ما يُستبعد من أسلوب الدولتين تركيا وطهران في إدارة سياستيهما، فما هو معروف من سياسات طهران تحديداً أنها براجماتية وغير مرتجلة إلى ابعد الحدود.
وواقع الحال أن هذا التصعيد التراشقي المتداخل المحاور هو في جوهره في تقديرنا ناتج عن احتدام الخلاف في وجهات النظر بين السياسات التركية والإيرانية على صياغة مشهد التوازنات السياسية، والجيو سياسية للمنطقة، وهنا سنحاول قراءة المشهد بجنبتيه: الأولى وهي حمل المشهد على صورته الظاهرة من كون ذلك التصعيد فعلاً لا يخرج في قراءته عن حيز التصريحات وردودها المرتجلة، أم الأخرى فهي ملامسة الأمور بشكل أعمق من ظواهرها وأكثر تفاعلاً بحيث انه ربما وراء الأكمة ما وراءها من سيناريو ستدفع نحوه المنطقة، فإذا استعرضنا المشهد عن كونه لا يتعدى ردود أفعال ناتجة بسبب التحولات المباشرة والطافية على السطح فانه قد يكون من التبسيط ان يُفسر التصعيد التركي الأخير تجاه المالكي على انه نتيجة لطلب طهران نقل ملف رعاية المفاوضات النووية التي تدور بينها وبين الجانب الامريكي والأوروبي من الرعاية التركية إلى الرعاية العراقية وذلك ربما هو ما جعل الأتراك يتحسسون لمحاولات طهران فرض الجانب العراقي كمركز فاعل قد تعافى واستعاد دوره وقدرته على المساهمة في حلحلة ملفات المنطقة العالقة وهو ما قد يؤسس لانطباع وقبول دوليين بأن دور تركيا وتفاعلها على الطرف الآخر من حدود المنطقة كانا بعيدين عن ملفاتها وتحولاتها فترة طويلة ومن الممكن الاستغناء عنهما وابقاؤهما كما كانا.
ومما لا شك فيه ان بروز الجانب العراقي كمحتضن وراع لملف مارثوني شائك استقطب اهتمام العالم سيشكل في حد ذاته ولو بنسبة ما عامل حجب للأضواء التركية التي تسعى لرفع وتيرة وهجها في هذه المرحلة المتحولة من مصير المنطقة، وما هو معلوم ان هذا التحول المستجد لم يأت إلا من خلال دفع ورغبة إيرانيين بطلب رعاية بغداد لتلك المفاوضات بدلاً من الجانب التركي وهو الأمر الذي ربما أثار حفيظة تركيا وحركها لإطلاق مثل تلك التصريحات المباشرة.
ومع ذلك فان الكثير من المتابعين يتحفظون على التصريحات التركية وخصوصاً ما هو متعلق منها بشأن التلويح بالناتو، وما هو ملحوظ أيضاً في هذه المرحلة أن طهران تسعى لمساعدة العراق على استعادة دوره في المنطقة ومن داخل بيته العربي ولكن بالصورة التي تستهويها فاجتماع الجامعة العربية الذي انعقد في بغداد رحبت به طهران كثيراً ودفعت بكونه مؤشرا لنجاح العراق في استعادة دوره العربي ومع ذلك ستبقى تلك هي الصورة الطافية من أسباب تلك التصريحات المتشاكسة والمتعددة المحاور، وهي ربما قد تصح كتفسير لما نتج عن الجانب التركي من تصعيد إعلامي مسئول وهذا عن الجانب التركي فماذا عن الوجه الاخر من التصعيد الإيراني المقابل في الملفات؟ وهنا ربما يكمن جوهر وحقيقة المشهد الخفي لما يدور تحت الستار من تحولات وقد استشعرته تركيا فرفعت بذلك وتيرة التصريحات الآنفة الذكر، فعلى المستوى السياسي من الواضح ان طهران تُقيّم حجم الفراغ الذي سيخلفه غياب المحور السوري عن سياستها وذلك في حال إذا ما سقط النظام في سوريا إذ من المنظور ان لا أفق واضحا لنهاية تلك الأزمة وبالتالي ربما من هنا يبرز بعض المؤشرات التي تُنبئ عن وجود بوادر لإعادة إيران لترتيب أوراقها تحاشياً لأي مستجد قد يُسقط من حساباتها الورقة السورية وهي الورقة التي بكل تأكيد تُقلق السياسة الإيرانية إلى ابعد الحدود، ثم ان نجاد الرئيس الإيراني المنتهية آخر مرحلة لولايته وما سببته تلك الحقبة من زيادة الضغط والعزلة لطهران وهو ما يذهب له الكثير من دوائر النقد الإيرانية وكل تلك عوامل قد تدفع إلى التغيير في نهج السياسة الإيرانية أمام المفاوض الأمريكي والأوروبي.
وفي ضوء ذلك المتقدم لنضع الافتراض الأقوى الذي مفاده ماذا لو ان إيران دفعت بنقل رعاية مفاوضاتها النووية من تركيا للعراق تمهيداً لعزمها على تقديم تنازلات للدول الغربية بشأن برنامجها النووي وهو ما سُيكسب شرفيا ما يتحقق من نجاح لرصيد حكومة العراق وهو ما تدفع به طهران حاليا؟ والبعد الأهم أن إيران طبعاً لن تُقدّم أي تنازل من جانبها من غير مقابل، فماذا لو اتفقت إيران مع الدول الغربية على التراجع عن حلقة التخصيب الذاتي لدورة اليورانيوم مقابل ان تُترك لها ورقة العراق وورقة بعض الملفات الخليجية كالجزر الإماراتية العربية وهو الأمر الذي ربما يُفسر ذلك التصعيد الايراني الأخير بالإحلال العسكري المفاجئ في الجزر؟ ثم تبقى الورقة السورية معلقة المخاض للمنتصر فيها من الأجندة الخارجية المتصارعة عليها وهنا أيضا تبرز التصريحات الروسية الأخيرة المتشددة والمجاهرة بشكل لم يسبق له مثيل في شأن الأزمة السورية واضعة علامة استفهام أخرى في سياق ما قد يكون متحولاً من المواقف والتوافقات تحت الطاولة.
ومع كل ذلك يبقى السؤال الذي يفرض نفسه على مثل ذلك التحول هو هل تقبل الولايات المتحدة وإسرائيل بمثل تلك المعادلة؟ في تقديرنا ان السياسات الامريكية والإسرائيلية لن ترى ضيرا في التماشي مع ذلك مقابل تراجع الايرانيين تراجعا نهائيا عن فكرة تخصيب اليورانيوم الذاتية وخصوصا ان بقاء أمد الأزمة السورية على ما هي عليه من حالة التصادم غير المحسوم يُعمق من أزمة الاصطفافات في المنطقة وهو ما يستهوي اسرائيل ويصب في خدمة أجندتها الاستراتيجية البعيدة المدى ضد الكيان العربي.