الجريدة اليومية الأولى في البحرين


دراسات


إيران والعقوبات الجديدة.. انصياع أم مزيد من التشدد؟

تاريخ النشر : الثلاثاء ٨ مايو ٢٠١٢



وسط خيارات مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها استخدام القوة العسكرية، لجأت الإدارة الأمريكية إلى تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، فقبل أن ينقضي عام 2011 ونظرًا لكونه أكثر العقوبات صرامة في الضغط عليها وحملها على التوقف عن الاستمرار في برنامجها النووي، وقع الرئيس «باراك أوباما» قانونًا يفرض عقوبات جديدة على المؤسسات المالية التي تتعامل مع البنك المركزي الإيراني، إذا ما طبقت بالكامل فستضر قدرتها على بيع النفط، سلعتها التصديرية الأساسية، في السوق العالمية، ومن ثم متحصلاتها من العملات الأجنبية وقدرتها على استيراد ما يغطي احتياجاتها من السلع الاستهلاكية والوسيطة والاستثمارية، غير أن العقوبات الأشد تأثيرًا بالفعل تمثلت في حظر استيراد النفط الإيراني الذي سيطبق من يوليو 2012، وذلك بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي الاتفاق على حظر استيراد الخام الإيراني، علمًا بأن دوله تشتري 450 ألف برميل يوميا من هذا الخام الذي تبلغ صادرات إيران منه 2,6 مليون برميل يوميا، ما يجعله ثاني أكبر سوق للخام الإيراني، كما تسعى الولايات المتحدة لإقناع الدول المتضررة من هذا الحظر، وخاصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية بتقديم بدائل وحلول لسد احتياجاتها النفطية حال الحظر (يشكل النفط الإيراني 9% من احتياجات اليابان للطاقة، كما تشتري الصين 11% من احتياجاتها النفطية المستوردة من إيران).
وقد خفضت الصين وارداتها من إيران بواقع 285 ألف برميل يوميا، كما تدرس اليابان تقليص وارداتها بمقدار 100 ألف برميل يوميا، وكوريا الجنوبية 40 ألف برميل يوميا، بينما أخذت الهند تشتري كميات إضافية من السعودية تحسبًا لأي تطورات جديدة.
وللتملص من هذه العقوبات، قد تقبل إيران على إغراء المشترين بخصومات كبيرة يمكن أن تصل إلى 20 دولارًا للبرميل، أو تقوم بتهريب النفط عبر العراق أو مقايضة النفط بالذهب والحبوب، أو نقله عبر ناقلات متعددة وخلط الخام لتمويه مصدره الأصلي، وقد سبق أن جربت طهران هذه الأساليب في تسعينيات القرن الماضي، حين حظرت الإدارة الأمريكية استيراد 600 ألف برميل يوميا من الخام الإيراني سعيًا لإثنائها عن امتلاك أسلحة نووية، وللهروب من تعقب المصارف المتعاملة، يلجأ المتعاملون في النفط الإيراني بطرائق غير رسمية إلى بنوك أوروبية وروسية صغيرة غير منكشفة على الولايات المتحدة، كما تتحول طهران إلى عملات أخرى كالين والروبية والروبل في تسوية مبيعاتها النفطية، وهذه الأنشطة تقدم مجالاً خصبًا لتربح الوسطاء الذين تصعب مطاردتهم وتعقبهم، علاوة على أن الخصومات والشروط السهلة التي لا يقدمها بائعو السوق الرسمية تشكل أحد أهم منافذ الهروب من العقوبات، مثل نقل النفط على ناقلات إيرانية غير خاضعة للعقوبات الأوروبية والأمريكية.
وفي الإطار ذاته، أطلقت نيودلهي وطهران آلية سداد باستخدام الروبية وعن طريق المصارف الإيرانية غير الخاضعة لهذه العقوبات، وتغازل طهران دولاً أخرى وتغريها بأجل طويل في السداد أو استخدامها كمناطق لتخزين نفطها، ومن هذه الدول باكستان وجنوب افريقيا، ومن الحيل التي تتبعها إرسال ناقلات محملة بالنفط الخام والمكثفات إلى دول آسيوية، حيث يتم تصريف محتوياتها في سفن أصغر تقوم ببيعها في موانئ إندونيسيا وسنغافورة، ويساعد السعر المرتفع للنفط حاليا الذي تجاوز 120 دولارًا إيران كثيرًا على تحمل كُلفة هذه الأساليب، رغم أنها قد تكون شديدة المخاطر وخاصة بالنسبة للمصارف وعدم تمكن الشركات التي لها اتفاقات تجارية مع إيران من تحصيل أموالها، أخذًا في الاعتبار أن العقوبات الأمريكية الحالية تقضي بمنع المؤسسات المالية الأجنبية من التعامل في السوق الأمريكية إذا استمرت في التعامل مع المركزي الإيراني بعد 28 يونيو 2012، ولكن إذا تمكنت الدول من خفض وارداتها من النفط الإيراني يمكنها الحصول على استثناء من القانون الأمريكي حتى لا تحرم بنوكها من التعامل مع النظام المالي الأمريكي، غير أن الخوف من أن تؤدي العقوبات الجديدة إلى ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية قد دفع عددًا كبيرًا من مؤيدي العقوبات على إيران وآخرين في قطاع الطاقة إلى محاولة إقناع الإدارة الأمريكية بمنح شركات الطاقة استثناءات مماثلة، وطريق الاستثناءات يخرق تماسك نظام العقوبات ويسهل على إيران الإفلات منه، كما يعطي الدول المستفيدة من خصومات ومزايا شراء النفط الإيراني ذريعة لاستمرار التعامل، ويجعل من الحظر سلاحًا مهددًا، كما أن عدم المشاركة الفعالة لقوى كبرى مثل الصين وروسيا والهند في نظام العقوبات يخفض كثيرًا من تأثيرها، وليس أدل على ذلك من توسيع شركة الناقلات الوطنية الإيرانية أسطولها من ناقلات النفط بتسلمها 12 ناقلة في مايو الحالي من أحواض بناء السفن الصينية، بما يزيد من طاقة أسطول الشركة الإيرانية، ومن ثم التهرب من حظر الاتحاد الأوروبي على شركات التأمين وإعادة التأمين الأوروبية وتوفير التغطية التأمينية للسفن التي تنقل الخام الإيراني لأي مكان في العالم اعتبارًا من يوليو القادم.
وبينما تواصل الصين إمداد إيران بالبنزين، رفضت الهند الامتثال للإجراءات المالية الجديدة التي طلبتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومع خشية طهران من أن تؤدي العقوبات إلى نقص كميات الغذاء، فقد طلبت كميات ضخمة من القمح لسد احتياجات سكانها البالغين 77 مليون نسمة، وأبدت البنوك الروسية استعدادها لتمويل بعض صفقاته، وأن تتم التسوية بالروبل أو العملة الإندونيسية أو المقايضة بحديد أو نفط خام، وما جعل دولا مهمة في استيراد النفط الإيراني كالصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية غير متجاوبة كثيرًا مع عقوبات الحظر النفطي هو إحساسها بمصداقية التهديد الإيراني بإغلاق أو تعطيل الملاحة في مضيق هرمز المهم استراتيجيا لوارداتها النفطية، ما يضرب مصالحها الاقتصادية الحيوية في مقتل ويرفع أسعار النفط الخام بصورة جنونية.
من ناحية أخرى، لا ينبغي أن ينظر إلى الأزمة السورية بمعزل عن نظام العقوبات الغربي ضد إيران، ذلك الذي ترفضه كل من الصين وروسيا، ومن أجل هذا الارتباط كان استخدامهما للفيتو في مجلس الأمن، وكان استمرار الدعم العسكري الروسي للنظام السوري، بل إن المسألة السورية في بعض جوانبها هي مسرح مفتوح للحرب بين إيران والغرب، فإذا نجح الأخير في مسعاه لتغيير النظام في سوريا، فإن هذا يزيد من عزلة إيران و«حزب الله» اللبناني، وهو ما يعد أقوى دافع له في تلك الأزمة، فضلاً عن أن سقوط سوريا سيؤدي إلى تحكم الغرب في مركز الشرق الأوسط، ويجعل الضغط الغربي برمته مسلطًا على إيران، فإذا ما اندلعت حرب ضدها فإن اعتماد الصين على النفط الروسي سيزداد بما يحمله هذا من تغييرات استراتيجية في العلاقات بين الجانبين
ورغم أن تجارب إيران مع العقوبات السابقة أثبتت قدرتها على التعايش مع فرض هذه العقوبات، ولم تثنها عن المضي في برنامجها النووي، فان الإدارة الأمريكية ترى في حزمة العقوبات الجديدة مع وجود التزام دولي شامل بها، وهو الأمر الذي تتوقعه؛ حيث وضعت الدول العالم أمام خيارين؛ إما مصالحها مع الولايات المتحدة، وإما استمرارها في شراء الخام الإيراني، أنها ستكون الحاسمة في حمل إيران إلى طاولة المفاوضات والمرونة في الاستجابة للمطالب الغربية، وقد بدأت المؤشرات الأولية لذلك في إعلان الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وجنوب إفريقيا والهند خفض مشترياتها من النفط الإيراني، الأمر الذي ترتب عليه تراجع صادراتها في مارس الماضي بنسبة 14%، مما رفع سعر مزيج «برنت» إلى نحو 127 دولارًا للبرميل، وهو ما يبين أن هذه العقوبة سلاح ذو حدين رغم التطمينات الأمريكية بوجود كميات كافية في مخزونات الطوارئ لدى الدول وإمكانية رفع الإنتاج، وقد تحفظ قانون العقوبات الذي وقعه «أوباما» في ديسمبر 2011 بأنه على الرئيس الأمريكي أن يقرر بحلول 30 مارس وبعد كل 6 أشهر من ذلك التاريخ ما إذا كان سعر النفط غير الإيراني وإمداداته كافية، بما يسمح للمستهلكين بخفض مشترياتهم من إيران بنسبة كبيرة.
إن الحظر إذًا يتم بشكل تدريجي، والدول التي تثبت أنها قامت بخفض مشترياتها من النفط الإيراني تعفى من العقوبات الأمريكية، أي ان هذه العقوبة تصب في خانة خفض إيرادات الدولة الإيرانية، الأمر الذي تعززه الطرائق غير الرسمية التي ستلجأ إليها إيران لبيع نفطها، فضلاً عن هذا فإن تعزيز الحصار على القطاع المصرفي عن طريق فرض العقوبات على المصارف الإيرانية وعلى كل ما يتعامل معها، من شأنه أن يؤدي إلى إبطاء وارداتها وتعقيد تحصيلها مائة مليار دولار (عوائد صادراتها النفطية في 2011)، وهذا الوضع ترتب عليه انخفاض قيمة عملتها أمام الدولار بنسبة 55%، ولم يعد لدى المصرف المركزي ما يكفي من عملات لتغطية حاجة السوق، ويتزامن هذا مع إعلان شبكة «سويفت» التي تدير أغلب المعاملات والتحويلات في العالم قطع علاقاتها مع البنوك الإيرانية، الأمر الذي يلحق أضرارًا فادحة بالاقتصاد الإيراني الذي يصبح معزولاً عن التدفقات المالية العالمية، ولن تنجح عمليات التهريب مع العراق أو عبر دبي في الخروج من هذه العزلة.
وفي الحقيقة، تضع هذه العقوبات إيران أمام خيار الذهاب للتفاوض وكسب الوقت وربما حزمة حوافز تتمثل في تخفيف العقوبات أو حتى إلغائها أو الاستمرار في موقفها المتشدد مع ما يحمله هذا من تداعيات بين تعرضها لاحتمال ضربة عسكرية. في المقابل، تتجه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى مطالبة إيران بوقف أنشطة تخصيب اليورانيوم المتقدمة وضرورة إغلاق موقع التخصيب الجبلي في «فوردو» القريبة من قم، بما يوقف تقدمها نحو امتلاك يورانيوم عالي التخصيب يصلح للاستخدام في تصنيع الأسلحة، ويقلل الوقت الذي تحتاج إليه طهران من أجل تصنيع قنبلة نووية، كما تهدف هذه المطالب إلى منعها من ممارسة أنشطة نووية تحت سطع الأرض بعيدًا عن متناول الضربات الجوية، مقابل هذه المطالب يمتنع الغرب عن فرض عقوبات جديدة وتخفيف العقوبات الحالية، كما أن الحوافز قد تشمل إعطاءها مشروعية ضمنية للقيام بالمستويات الأدنى من أنشطة التخصيب، وهو الأمر الذي كان مرفوضًا من قبل، وإيران التي تحتاج إلى هدنة لالتقاط الأنفاس قد تسعى لكسب الوقت أو تظهر الاستجابة للمطالب الغربية حال كانت الحوافز قوية مستثمرة تغير الظروف الإقليمية والخروج من العزلة التي يحاول الغرب إحكامها عليها.
وفي سياق كسب الوقت، رفضت طهران عقد جلسة المحادثات في أنقرة، وطلبت بدلاً منها بغداد أو بكين، ثم عادت لجعل اسطنبول مكان الجولة الأولى وبغداد مكان الجولة الثانية، كما رفضت مسبقًا التوقف عن تخصيب اليورانيوم وإغلاق موقع «فوردو»، بينما يستمر خضوع جميع منشآتها النووية للتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مقابل هذا يعتبر «أوباما» هذين المطلبين الفرصة الدبلوماسية الأخيرة لها، وفي الوقت نفسه أعلن الرئيس «محمود أحمدي نجاد» خلال استقباله رئيس الوزراء الياباني السابق «بوكيو هاتو ياما» في ابريل أن بلاده لديها مقترحات عملية ستقدمها للاجتماع مع مجموعة (5 + 1)، كما أعلن رفضه أي شروط مسبقة لهذا الاجتماع، وأن بلاده تسعى من خلاله إلى التوصل إلى نتائج مرضية للجانبين، وأنها تملك من السيولة ما يمكنها الصمود حتى 3 سنوات أمام عقوبة حظر الصادرات النفطية، بما يؤكد قوة الموقف التفاوضي لبلاده، ومع تشدد كل من الطرفين في موقفه قبل بدء المحادثات، إلا أن هذا لا ينفي وجود رغبة حقيقية لدى كل منهما في التوصل إلى حل في ضوء الأوضاع الإقليمية والدولية المتغيرة، والحل الذي يحفظ ماء وجهيهما ينبغي أن يكون مربحًا، أي لا ينبغي أن يكون حصيلة مباراة صفرية، وهذا الحل المربح قد يكون مضمونه استمرار البرنامج النووي السلمي بضمانات مؤكدة، والاعتراف بدور إقليمي لإيران، وفي هذا الصدد جاءت زيارة «نجاد» لجزيرة «أبوموسى» الإماراتية لتؤكد مضمون هذا الحل قبل انطلاق جولة المحادثات في 13 ابريل الماضي، والنجاح الأولي لهذه الجولة هو وجود حالة من الإجماع على تفادي الهجوم العسكري على إيران والعمل من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي، وبينما تعجلت روسيا والصين رفع العقوبات أصرت الولايات المتحدة على تخفيضها بموجب جدول زمني يتواكب مع وجود أدلة قوية على حدوث تغيرات في البرنامج الإيراني.
على العموم، ان استئناف المفاوضات واستمرارها بعد 15 شهرًا من توقفها، يعنيان أن كلا الجانبين قد أرهقته العقوبات، وكليهما يبحث عن حل يحفظ ماء الوجه، وهو مؤشر يفيد أننا ربما نكون على أبواب حل، ولكنه يحتاج إلى مزيد من الصبر.