مقال الاستاذ فهمي هويدي
دروس تونسية في قراءة الحالة المصرية
تاريخ النشر : الثلاثاء ٨ مايو ٢٠١٢
فهمي هويدي
كأنك في تونس لم تبتعد عن مصر. فالثورة واحدة والهم فيها واحد. لكن إدارة الأزمة اختلفت، حيث أثبتت تجربة العام أنهم تفوقوا علينا في المهارة السياسية.
(1)
أول ما وقعت عليه عيناي، حين خرجت من باب الفندق، ثلاث خيام منصوبة على الرصيف المقابل أمام إحدى البنايات، وقد رفعت فوق إحداها لافتة تقول: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. سارع مرافقي إلى إيضاح الموقف فذكر أن الخيام لعمال معتصمين منذ أسبوع لأن لديهم مطالب رفضتها جهة الإدارة. لم يكن المنظر فريدا في بابه، لأن أمثال تلك الاعتصامات لاحظتها في شوارع عدة، وأخبارها وصورها تحفل بها صحف الصباح. لم أستغرب المنظر الذي كان صورة طبق الأصل من الحاصل في مصر، ولم يكن الأمر مقصورا على ذلك، لأن ما نعرفه من حوادث قطع الطرق تعبيرا عن الاحتجاج ومحاولة الضغط على الحكومة من خلال «وقف الحال»، أصبحت ظاهرة منافسة للاعتصامات شبه اليومية، وهو ما شكا منه وزير التنمية والتخطيط، جمال الدين الغربي، أمام لجنة المالية والتخطيط بالمجلس التأسيسي حين أعلن أن أمثال تلك الصعوبات عطلت مشروعات بقيمة 1800 مليون دينار (الدولار يعادل 1,5 دينار)، بل إن رئيس الجمهورية الدكتور منصف المرزوقي اعتبر أنها تشكل تهديدا للديمقراطية.
تلك نماذج قليلة من سيل الأخبار التي تحفل بها الصحف، وتكاد تعد استنساخا لما تنشره الصحف المصرية كل صباح، فبقايا الانفلات الأمني لاتزال مستمرة، وملف ضحايا الثورة وحقوقهم مفتوح على مصراعيه، وثمة لجنة لشهداء الثورة وجمعية «لن ننساكم» تباشر الآن مع الجهات المعنية. والاحتجاج على ممارسات الحكومة والتساؤل عن سرقة الثورة وعما إذا كان الموقف يتطلب القيام بثورة ثانية، هو ذاته الذي نقرأه في بعض الصحف المصرية، هم أيضا يتحدثون عن محاولات استرداد الأموال المنهوبة التي أودعها الرئيس السابق وأعوانه في البنوك الأجنبية. كما يتحدثون عن فكرة التصالح مع رجال الأعمال الذين تورطوا في فساد النظام السابق (460 ممنوعين من السفر) وإلزامهم بتبني مشروعات تنموية في مختلف الولايات (المحافظات)، وثمة مشروع مقدم إلى المجلس التأسيسي قدمته كتلة المؤتمر من أجل الجمهورية باستبعاد «فلول» النظام السابق (أعضاء حزب التجمع المنحل) من ممارسة العمل السياسي مدة 5 سنوات في حين يطالب آخرون بمدها إلى 10 سنوات.
(2)
يصف الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة تونس بأنها «مصر الصغرى». وذلك في سياق حديثه عن أوجه التشابه بين البلدين والشعبين، في اعتدال المزاج العام، وفي تركيبة الخرائط الاجتماعية والسياسية. وفي دور المنارة الذي مثله كل من جامع الزيتونة في تونس والجامع الأزهر في مصر، وريادة التحديث عند خير الدين التونسي هناك ورفاعة الطهطاوي هنا (الاثنان ظهرا في القرن التاسع عشر). وكان تقدير الشيخ الغنوشي المبكر، أن الثورة ستبدأ في مصر وستنتقل شرارتها بعد ذلك إلى تونس، معتبرا أن تفاعلات غضب 85 مليون نسمة في مصر سوف تسبق انفجار غضب العشرة ملايين تونسي. إلا أن رياح الأحداث أتت بعكس ذلك.
امتد التشابه إلى ما هو أبعد، حين ضربت رياح التغريب البلدين بعد الاستقلال. وإن كانت تلك الرياح أشد وأعتى في تونس. وبرز الصراع بين التيارين الإسلامي والعلماني (التغريبي تحديدا) في كل منهما. مع انحياز للعلمانية أكثر وضوحا وأشد فجاجة في تونس. وقد تساوى البلدان في موقفهما من قمع الإسلاميين، الأمر الذي أصبح من ثوابت النظام السياسي في كل منهما. وخصوصا بعد خضوعهما لنظام بوليسي صارم كان فاحشا في تونس، احتكر السلطة ونهب الثروة وأشاع الفساد بقدر ما أشاع الخوف. وهو الوضع الذي انقلب تماما بعد الثورة، على الأقل فيما خص الحريات العامة، حتى انتقل كل من البلدين إلى حالة من الانفلات الإعلامي بدت أوسع نطاقا من الانفلات الأمني.
هذا التشابه في الظروف لم يمنع من وجود تباينات برزت بعد قيام الثورة في كل منهما. ذلك أن الجيش في مصر انحاز للثورة وشكل مجلسا أعلى تولى السلطة التنفيذية في البلاد. أما في تونس فالجيش وقف محايدا في حين تولت السلطة المدنية إدارة البلاد منذ اليوم الأول، حين شغل رئيس البرلمان منصب رئيس الدولة طبقا للدستور. وتولى من جانبه تكليف حكومة أشرفت على إجراء انتخابات الجمعية الوطنية التي قامت بمهمة البرلمان وشرعت في وضع الدستور. لذلك فإن الجدل المثار في مصر حول نقل السلطة من المجلس العسكري إلى المدنيين لا وجود له في تونس.
من الفروق المهمة بين البلدين أيضا أن حزب النهضة الإسلامى الذي فاز بأعلى نسبة من الأصوات في انتخابات الجمعية التأسيسية نجح في تشكيل فريق ثلاثي «ترويكا» تولت إدارة البلاد، مستثمرا في ذلك توافقا مبكرا (في عام 2005) بين الأحزاب الوطنية في مواجهة الرئيس السابق زين العابدين بن علي. إذ أسس هؤلاء فيما بينهم ما سمي بهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، ونجحت تلك الهيئة في التوصل إلى تفاهم بين تلك القوى حول المستقبل، بلورته أوراق تناولت ثلاثة عناوين هي: الحريات العامة والعلاقة بين الدولة والدين وحقوق المرأة. هذه الخلفية فتحت الطريق لاقتسام السلطة، بحيث تولت حركة النهضة رئاسة الحكومة، في حين تولى رئاسة الدولة ورئاسة الجمعية التأسيسية ممثلان لحزبين علمانيين هما الدكتور منصف المرزوقي رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والدكتور مصطفى بن جعفر رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات.
(3)
التوافق الذي أدى إلى اقتسام السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين المعتدلين يعد أحد أهم الإنجازات السياسية التي تحققت بعد الثورة في تونس، وهو ما فشلنا فيه في مصر. ذلك أنهم إذا كانوا هناك قد أقاموا تحالفا سياسيا مع العلمانيين المعتدلين حرك سفينة إدارة الدولة، فإن الفشل الحاصل في مصر حال دون توافق الإسلاميين مع المعتدلين والمتطرفين من العلمانيين والليبراليين، الأمر الذي أدى إلى تعثر المسيرة وتخبطها. وهو ما شهدناه في تشكيل جمعية وضع الدستور، وفي العديد من الممارسات السياسية الأخرى.
أدرى أنه من الصعب للغاية علاج أزمة الثقة بين الطرفين بسبب الضغائن والمرارات التي تراكمت على مر العقود، لكننا نتحدث عن إمكانية التعايش بين عقلاء الجانبين في ظل استمرار الخلافات بينهما. ذلك ان القدرة على تحقيق ذلك التعايش هي المعيار الذي تقاس به المهارة السياسية.
في هذا السياق يلفت نظرنا في تونس أن حركة النهضة تواجه تحديا ليس من المتطرفين العلمانيين فحسب، وإنما من المتطرفين الإسلاميين أيضا، ذلك أن الأولين يستثمرون حضورهم، في الساحة السياسية وانتشارهم في وسائل الإعلام وفي أوساط بعض المثقفين، في تجريح الحركة والحكومة التي تولت حركة النهضة رئاستها. إذ إلى جانب حملات التشهير والتشكيك والتحريض التي يمارسونها من فوق المنابر المختلفة، فإن عناصرهم التي تتحكم في أغلب وسائل الإعلام دأبت على تحدي الحكومة ومقاطعتها في بعض الأحيان. يذكرون في هذا الصدد أن تنصيب أول حكومة شكلتها «النهضة» في تاريخ تونس المعارض، كان الخبر الثالث في نشرة أخبار التلفزيون الرسمي، في حين كان الخبر الأول عن الغلاء في تونس والثاني عن الاعتصامات. حدث ذلك في الوقت الذي احتل فيه حدث التنصيب رأس نشرة الأخبار في التلفزيون الفرنسي. وحين زار وزير الخارجية التونسي بكين ووقع بعض الاتفاقيات مع نظيره الصيني، فإن التلفزيون الرسمي نشر صورة الوزير الصيني وحده وتجاهل التونسي (!)، لكنه أبرز خبر زيارة خارجية سوريا لبكين التي تمت في ذات التوقيت. يتحدثون أيضا عن تجاهل التليفزيون لزيارة الرئيس المرزوقي لليبيا، إذ في الوقت الذي كانت تجري مراسم استقباله في مطار طرابلس، فإن التلفزيون الرسمي كان يبث برنامجا عن الغابات وحيواناتها المختلفة...إلخ.
إذا كان المتطرفون العلمانيون يضغطون من على يسار النهضة فإن السلفيين يضغطون من أقصى يمينها. إذ كما ظهر السلفيون في مصر بشكل لافت للنظر بعد الثورة، فإن ذلك حدث أيضا في تونس مع اختلاف في أمرين. الأول انهم في مصر شاركوا في الانتخابات وحصلوا على خُمس مقاعد مجلس الشعب، ولكنهم قاطعوها في تونس. الثاني انهم في مصر على اختلاف أطيافهم يركزون على الدعوة والأنشطة السلمية وينتمون إلى ما يعرف بالسلفية العلمية، أما في تونس فلهم جناح يستخدم العنف وينتمي إلى ما يسمى بالسلفية الجهادية. والمسالمون يزحفون على المساجد ويفرضون تقاليدهم على المجتمع، والجهاديون ينشطون في الجنوب ولهم علاقاتهم مع تنظيم القاعدة في المغرب العربي. وقد قتل منهم اثنان مؤخرا أثناء اشتباك مع قوات الأمن، حينما كانوا يهربون السلاح من ليبيا.
(4)
موقع الشريعة في الدستور الجديد كان موضوعا اشتباكيا من جانب الطرفين، لكن قيادة حركة النهضة تعاملت معه بدرجة عالية من النضج والمسئولية. فالمتطرفون العلمانيون خاصموها والمتطرفون الإسلاميون اعتبروا النص عليها أمرا وجوبيا. وهؤلاء الأخيرون لم يكونوا من السلفيين فحسب، ولكن وقف معهم في نفس المربع الجناح المحافظ في حركة النهضة ذاتها، كما تعاطف معهم جمهور من المتدينين العاديين. وشجع الجميع أحد الدعاة المصريين المقيمين في الخارج، الذي استضافه السلفيون وصار رأس حربة في المواجهة.
التجاذب حول الموضوع عمق من الانقسام في المجتمع التونسي وأشاع قدرا غير قليل من التوتر في أوساطه، وخصوصا أولئك الذين اقتنعوا بأن تطبيق الشريعة خطر على الحريات العامة والحداثة ومكتسبات المرأة.. إلى آخر ما يردده البعض في مصر وغيرها في هجاء الشريعة ومحاولة تجريحها.
لمواجهة الموقف اجتمع قادة حركة النهضة وبحثوا الأمر من مختلف جوانبه، الذي عبر عنه الشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة بقوله انهم يريدون تجنب الانقسام في البلد، لان وحدة الجماعة الوطنية تمثل موقفا استراتيجيا يتعين الحفاظ عليه. لذلك فإنهم اكتفوا بالنص المتفق عليه منذ الاستقلال الذي قرر أن تونس دولة عربية دينها الإسلام باعتبار ذلك التزاما أصيلا كل ما عداه تفاصيل تليه في الترتيب. وهو القرار الذي نزع فتيل التوتر في البلد، وأشاع حالة من الارتياح والسكينة في أوساط القلقين والمتوجسين. إلا أنه أثار غضب السلفيين والجناح المحافظ في الحركة، حتى أن أحد المزايدين في الساحة السياسية وجه خطابا إلى علماء السعودية دعاهم فيه إلى الاحتجاج على هذا الموقف الذي اعتبره «خيانة للشريعة».
الفرق بين الموقفين، يعكس التمايز بين فصيل إسلامي يرى المجتمع ووحدة قواه الوطنية أولا، وبين فصيل آخر يرى الجماعة ومشروعها أولا. إن شئت فقل انه تعبير عن الاختلاف في القراءة الاستراتيجية لواقع يرى فيه طرف محيطه الذي يعيش فيه، وطرف آخر ينظر إلى المرآة فلا يرى إلا نفسه، وهي العبرة التي لم يستوعبها أغلب الإسلاميين في مصر. إلا أن تلك ليست المشكلة الوحيدة، لأن أغلب الإسلاميين إذا كانوا يطيلون النظر في المرآة، فإن أغلب العلمانيين لايزالون أسرى حساباتهم ومراراتهم. وإذا كان الأولون مشغولين بالانتصار لمشروعهم والآخرون مشغولون بالانتصار على خصومهم، فإننا سنظل نحلم بيوم يفيق فيه الجميع فيحتشدون للانتصار للوطن، وأرجو ألا يطول انتظارنا لذلك اليوم.