الجريدة اليومية الأولى في البحرين


رسائل


ثورة 25 يناير وريــــاح التغيــــــير في المجتمع المصري

تاريخ النشر : الأربعاء ٩ مايو ٢٠١٢



القاهرة - خاص:
صدر مؤخرا في العاصمة المصرية كتاب جديد يتناول الابعاد الداخلية والخارجية لثورة 25 يناير من تأليف الباحث والخبير في الدراسات السياسية الدكتور محمد نعمان جلال، وجاء الكتاب تحت عنوان «ثورة 25 يناير: اطلالة على الأبعاد الداخلية والخارجية».
كعادته في كل كتاب جديد يحاول د. محمد نعمان جلال مناقشة قضايا تستحوذ على فكر المتابعين للشئون المصرية والتحولات العربية، ففي أحدث مؤلفاته الذي يضم أربعة عشر فصلا يتناول العوامل التي جذبت رياح التغيير لتحط رحالها على ضفاف وادى النيل وتصبح محورا لفكر رجال الاستراتيجية وخبراء مراكز الرصد والتحليل السياسي.
يميل د. نعمان للتأكيد أن رياح التغيير دائما ما تجلب روحا جديدة مصحوبة بفكر وثاب وآمال مشرقة ورجاء في غد أفضل كأنه يردد القول المأثور للكاتب الفرنسي جوزيف برودون ((سأهدم وأشيد)) مستعرضا بذلك الأحداث التاريخية التي مرت بمصر في مختلف العصور وخلفت آثارا جددت من حضارة مصر وانعكست على المحيط الإسلامي والعربي والجغرافي الذي تعيش فيه.
فبالرغم من المخاطر التاريخية التي تعترض مراحل التحول فانها تنتصر في نهاية المطاف وتدفع بالأمة قدما وتجدد دماءها. يؤكد الكاتب وحدة النسيج الوطني في مصر الذي يعود للشعور بالمصير المشترك ووحدة التراب بين عنصري الأمة والتلاحم الذي يميز شعب مصر عن الكثير من الأمم عبر العصور، كما ركز في أن فترات التحول يجب أن تكون مصحوبة بفكر مجدد يدعو للبناء لا الهدم وتزكية روح التسامح والتعايش لا الانتقام والنبذ مقتديا في ذلك بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي عفا عن أهل مكة بعد الفتح بالرغم من العذاب والتشريد اللذين لقيهما المسلمون الأوائل على أيديهم.
يؤكد الكاتب أن رياح التغيير التي اجتاحت مصر كانت نتيجة طبيعية وتلقائية لحالة الجمود التي سيطرت على البلاد بفضل تزاوج مصالح رأس المال والسلطة الذي أجبر الشباب على الهجرة أو التمرد أو اللجوء إلى مدارس الفكر المتشدد التي تستهوي الشباب الذي يرغب في تحقيق ذاته وتلبية طموحاته إلى جانب الضغوط الدولية التي مارستها مؤسسات متخصصة في تغيير نظم الحكم وتخطط لأهدافها على المدى البعيد. والدليل على ذلك ما أفصحت عنه تلك المؤسسات التي تمارس أنشطة خفية في الكتابات التي نشرت والأفكار التي طرحت منذ خمس سنوات تقريبا عن السعي لتطبيق نظرية (الفوضى الخلاقة) التي سخر البعض من محاولة تطبيقها في دول مستقرة وراسخة مثل مصر إلا أنه تبين بعد وقوع أحداث تونس ومصر أن تلك المخططات السرية كانت قائمة على قدم وساق حتى عم طوفان التغيير. لقد ظل الكاتب يحذر طوال عقد من الزمان من مغبة إهدار طاقات الشباب الذي هو ذخيرة الوطن وحقق لمصر إنجازات لا تنكر كأنه يستشرف المستقبل ويتنبأ بدون اللجوء إلى كرة ساحر بللورية بما سيقع من تحولات وأمور جسام.
لاحظ الكاتب أيضا التحولات التي طرأت على الشخصية المصرية مثل انكماش الطبقة المتوسطة التي هي العمود الفقري للمجتمع المصري والتي أفرزت لمصر والعالم العربي المبدعين والمفكرين والقادة في مضمار الفنون والسياسة والعلوم والآداب، حتى ان قطاع الأعمال تعرض للضغوط نفسها التي تعرضت لها الطبقة المتوسطة التي تضم العمال والفلاحين والطلاب وموظفي الحكومة وذلك عن طريق بيع الأصول الرأسمالية لمرافق الإنتاج في مصر التي كانت ثمرة جهود وكفاح الحقبة الناصرية التي عززت الانتماء الوطني ودعت الشعب لتملك وسائل التصنيع والإنتاج حتى يضمن استقلاله وحرية قراره.
ويبرز د. نعمان دور القوات المسلحة المصرية في تأمين البلاد وتولي زمام إدارة شئون الدولة خلال المراحل التاريخية التي مرت بها مصر عبر العصور انطلاقا من ثورة 1952 حتى عبور أكتوبر المجيد. لقد أسهم جيش مصر في الحفاظ على السلام الاجتماعي والأمن المدني خلال فترات عصيبة كما ورد في كتاب (ثورة 25 يناير: إطلالة استراتيجية على الأبعاد الداخلية والخارجية).
ولا يغفل الكاتب التحذير من الأطراف الخارجية التي تسعى (للصيد في الماء العكر) باستغلال مرحلة التغيير التي تمر بها مصر وتحاول تحقيق مكاسب سريعة عن طريق الدس والإثارة وإشعال نار الفتنة بين طوائف الشعب، وهي محاولات باءت بالفشل بسبب طبيعة الشعب المتماسك تاريخيا فكم تعرض لأزمات خرج منها أصلب عودا وأقوى إرادة!
قد لا يعلم البعض أن د. نعمان جلال قد شغل مناصب متعددة في الهيئات الدبلوماسية الدولية والإقليمية والوطنية فترة جاوزت أربعة عقود قضاها في عمل جاد امتدت رقعته من الصين شرقا حتى أروقة الأمم المتحدة غربا بالإضافة إلى إسهاماته الفكرية في الصحف الدورية والمجلات المتخصصة والحرص على المشاركة في المؤتمرات الدولية والندوات الإقليمية وخاصة التي تتناول الفكر الاستراتيجي ومجال حقوق الإنسان. وعن العمل الدبلوماسي أفرد فصلا عن استراتيجية السياسة الخارجية المصرية ودورها في صياغة المحاور السياسية التي صاغتها ثورة يوليو خلال ستة عقود. خلال تلك الحقبة حققت السياسة الخارجية انتصارات مبهرة لم تخل من إخفاقات واضحة كما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول في مراحل التحول التاريخي. ويستعرض الكاتب التحولات التي قد تطرأ على السياسة الخارجية المصرية في ضوء رياح التغيير التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع عام 2011، فلقد عبرت السياسة الخارجية لحقبة طويلة عن معتقدات راسخة وثابتة ووجهات نظر تبنتها القوى الإقليمية وفقا للضغوط والإغراءات التي كانت تتعرض لها المنطقة وفقا لتحولات السياسة الدولية والتهديدات الأمنية سواء من قوى خارجية أو من عناصر تسعى لتهديد الأمن الوطني للبلاد.
وفي حديثه عن دور الإسلام كمنهج وأسلوب حياة للأمة الأسلامية يبرز د. نعمان الدور الحضاري الذي لعبته الأمم الإسلامية في نشر روح التسامح والتعايش بين طوائف الأمة المختلفة تحت مظلة التآخي والحب والرحمة، ويشدد في أكثر من موقع على أن شعب مصر يتمتع بطبيعة خاصة فهو من أوائل الشعوب التي سلكت طرق الهداية وآمنت بالإله الواحد المقدس فالشعور الديني والعاطفي الجياش يسيطر على مزاج رجل الشارع العادي الذي يعشق الطبيعة والفن ويسعى للتكامل في محيط الأسرة والبيئة والوطن.
فالمصري القديم كان يتخيل أن مصر هي الفردوس الأرضي كما أن نهر النيل ينبع من عين من عيون جنات عدن ومن أجل ذلك اعتبر النيل نهرا مقدسا فكان يبذل أغلى ما لديه من روح وعتاد ومال ليدافع عن فردوسه الأرضي الذي باركه الرب جل وعلا، وهذا ما دعا الكاتب للعروج على كتابات الراحل العبقري د. جمال حمدان الذي بلور دور مصر الحضاري الفريد عبر عبقرية المكان والزمان وكيف أنها كانت جسرا لنقل الأفكار والمعتقدات والحضارات بين الشرق والغرب كما يسرت سبل التواصل بين الشمال والجنوب وحمت الحضارة الإنسانية من الهجمات البربرية التي كانت تهددها على مر العصور.
وعن روابط مصر التاريخية بمنطقة الخليج العربي يؤكد د. نعمان أن العلاقات المصرية الخليجية ظلت قائمة منذ زمن بعيد في ظل حركة التبادل التجاري والثقافي والمعرفي الذي امتد عبر العصور وتوج أخيرا بحرص ثورة يوليو على أن دول الخليج تمثل الجناح الشرقي للوطن العربي الكبير. كما أن دول الخليج لعبت دورا محوريا في إنشاء جامعة الدول العربية ولم تتوان عن مد يد العون للإسهام في مؤازرة القضايا العربية والإسلامية والدولية. لقد أنقذت حكمة قادة الخليج المنطقة من مخاطر إقليمية ودولية تهدد الأمن والسلم العالميين كما نشهد عبر وسائل الإعلام وما يبث على مدار الساعة.
من الأمور اللافتة عدة أمثلة تتناول كيفية الاستفادة من النموذج الصيني في التنمية والتطوير والإبداع، فهو يحفز الشباب الذي يسعى لأن تحتل بلاده مكانة مرموقة للاستفادة من (التجربة الصينية). ففلسفة البناء والتجديد الآسيوية تقوم على أسس واقعية مستمدة من الحقل والمدرسة والمصنع وموقع العمل مما يثمر نتائج إيجابية متميزة ويجنب خسائر فادحة ويحافظ على مقومات الإنتاج. وعن الانتخابات الرئاسية التي تمر بها مصر حاليا يقول عند اختيار القيادات لإدارة شئون البلاد يقترح تتبع خطى النهج الصيني الذي يحث على انتخاب قيادات شابة تتمتع بمهارات مشهود لها في إدارة المقاطعات والمحافظات مع توفير التقنيات الحديثة التي تساعد القائد على اتخاذ القرار والعمل على مصلحة الوطن ورفاهية الشعب.
وبالرغم من أن مصر على عتبات انتخاب رئيس جديد فلقد ألقى كتاب د. نعمان الضوء على التحولات التي سوف تشكل عملية اختيار أول رئيس منتخب في تاريخ مصر الحديث حيث كانت ولاية مصر في أغلب الحقب التاريخية نتيجة لقرار يصدره الخليفة في المدينة أو دمشق أو بغداد أو فرمانا من الباب العالي في الاستانة بعقد الولاية لأمير أو سلطان أو خديوي. لقد لعبت ثورة يوليو دورا محوريا في تاريخ مصر الحديث أسهم في تغيير النسيج الاجتماعي وفقا للتيارات الفكرية التي صاحبت الثورة حيث توارت طبقات ظلت تتحكم في إدارة شئون البلاد فترات تاريخية عبر قرون طويلة تحت سيطرة الحكم الأجنبي للبلاد، ومكنت الثورة أبناء الوطن من تولي مقاليد الحكم وتوجيه ثروات البلاد لمصلحة الطبقات التي ظلت محرومة من ثمار الوطن لأمد بعيد وتمخض ذلك عن تأميم شركة قناة السويس للملاحة وتحديد الملكية الزراعية وتكوين قاعدة صناعية متطورة.
ولما كانت حركة التاريخ تسعى دوما للتجدد وضخ دماء شابة في شرايين الأمم والشعوب فالكاتب يتوقع أن يأتي الرئيس القادم من صفوف الشعب ليحقق أحلامهم ويجسد آمالهم التي ظلت حبيسة الظروف التاريخية التي أحاطت بمصر منذ نهاية الحكم الفرعوني لمصر حتى التاريخ المعاصر.
لقد جلبت رياح التغيير خلال عام 2011 تيارات لم يعهدها الناس من قبل كما بعثت فرقا كان قد طواها النسيان إلا أن الله يقلب الليل والنهار. فالكاتب لا يخشى من انتماء الرئيس القادم لفريق أو تيار طالما أن مجلس النواب المنتخب من دون تزوير إرادة الشعب سوف يضع الضمانات والتشريعات التي تكفل للشعب حقوقه وللدولة سلطاتها من دون خلط للأوراق فلا الحكومة تطغى ولا الرعية تفسد. حين يبلغ الكاتب الفصل الرابع عشر يكشف عن حقائق مهمة عند مقارنة نظم الحكم في العالم العربي، فمثلا الشعوب التي تعيش في دول ملكية تتمتع بمستوى معيشة أفضل كما أن الحكومة تشعر بمسئولية تجاه احتياجات ومطالب الأفراد والجماعات بنسبة أعلى من الشعوب العربية التي تحكمها نظم جمهورية. هذا لا ينفي بطبيعة الحال لجوء كلا النظامين لإجراء إصلاحات دستورية تصب في صالح الديمقراطية والعدالة الاجتماعية اللتين تكفلان التوازن بين فئات الشعب في ظل الحكم الراشد. لابد من الإشارة إلى ان الكتاب صدر في توقيت ملائم ليواكب القضايا والأزمات التي تكالبت علينا.
ويمكن للمهتمين بقضايا الاستراتيجيات والتحليل السياسي في الشرق الأوسط مراجعة هذا الكتاب الذي يلقي الضوء على العديد من قضايانا المعاصرة ويجيب عن أسئلة مازالت حائرة.