من مفكرة سفير عربي في اليابان
المراهقة و«الربيع العربي»
 تاريخ النشر : السبت ١٢ مايو ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن
مع الإرهاصات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط منذ بدء ما سمي انتفاضات الربيع العربي، تعرضت مملكة البحرين لمرحلة تحد جديد من تاريخها، بعد عقد زمن من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد عقود طويلة من الحداثة والعصرنة، التي وفرت مستوى متقدما من الحياة الاجتماعية لشعبها، وطورت اقتصادها، لتصبح مركزا ماليا مهما في الشرق الأوسط، مما مكن الدولة من تقديم الرعايتين التعليمية والصحية الشاملتين والمجانيتين، مع نظام تقاعد متقدم، بالإضافة لجهود الدولة في توفير العمل والسكن للمواطنين.
ومنذ عام ٢٠٠١ بيضت سجون مملكة البحرين من المعتقلين السياسيين، وعاشت الصحافة مرحلة جديدة من الحرية، وأخذت تتشكل الجمعيات السياسية بحرية، وتزامن ذلك مع التصويت على الميثاق الوطني الذي دعمه ٩٨,٧% من شعب البحرين، ليتم بعد ذلك اعلان الدستور الجديد، ولتتحول البحرين لمملكة دستورية، أملا في أن تكون ديمقراطية على غرار ديمقراطيات الملكية الدستورية العريقة، كالمملكة المتحدة، بعد أن تم الفصل بين السلطات الثلاث، وتم تشكيل برلمان مكون من مجلس تشريعي منتخب، ومجلس شورى معين.
وقد ابتهج الشعب البحريني بالتطورات السياسية الجديدة، حالما تطوير التجربة لنموذج فريد لديمقراطية الشرق الأوسط.
وقد بقيت فئتان متضادتان في المعارضة رافضة هذه الإصلاحات: فئة رفضتها باعتبارها إصلاحات غير كافية، وفئة أخرى رفضتها لاعتقادها أنها مفرطة في الإصلاحات والحريات، وستؤدي للإضرار بسلطة الحكم وخلخلة الاستقرار. وقد حاولت الفئات المتطرفة من الطرفين إفشال هذه التطورات الإصلاحية، وكانت فرصتها السانحة في شهر فبراير من عام ٢٠١١، حينما بدأت انتفاضة العولمة بمظاهرات في مدينة نيويورك، وامتدت لاضطرابات المدن الأوروبية، ولتتصاعد لحرائق العاصمة اللندنية، ولتنتهي بمرحلة جديدة من الإرهاصات السياسية في منطقة الشرق الأوسط. وقد استغلت المعارضة البحرينية المتطرفة هذه التطوارت للدفع بالمطالبة بالانقلاب على الحكم الملكي الدستوري في مملكة البحرين، وتشكيل جمهورية بحرينية طائفية، على النمط الإيراني، في الوقت الذي ارتاح الطرف الآخر من المعارضة للتراجع عن الإصلاحات. وقد تطورت الأحداث خلال سنة واحدة بشكل سريع، بعد أن انسحبت المعارضة من الحكومة والبرلمان، ودفع بفئة من الشباب لممارسة العنف اليومي، وإدخال البلاد في مرحلة ركود اقتصادي مقلق. لقد برزت مؤخرا أصوات تطالب بالحكمة والعقلانية، والتحكم بالعواطف، لإخراج البلاد من نفق مظلم مستقبلي.
لقد علمتنا العلوم الاجتماعية ضرورة الرجوع إلى التاريخ في الازمات المعقدة، لأن التاريخ يعيد نفسه، فيمكن الاستفادة من أخطائه وعبره، وحينما راجعت تاريخ الإصلاحات البحرينية مؤخرا، لفت نظري تغير خطاب المعارضة في البرلمان البحريني في عام ٢٠٠٧،والذي يمكن الاستفادة منه في هذه الأزمة، بعد أن تراجعت في ذلك الوقت عن مقاطعة البرلمان، وشاركت في انتخاباته لتفوز بـ ١٨ مقعدا من مجموع ٤٠ مقعدا في المجلس النيابي المنتخب، وقد أحيت تلك الخطوة التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد، وترافقت أيضا بانشقاق الفئات المتطرفة عن جمعية الوفاق، وظهور مجموعات جديدة من الآيات الله السياسية. ولنراجع عزيزي القارئ ما نقلته صحيفة الوطن البحرينية في التاسع والعشرين من ديسمبر عام ٢٠٠٧، عن رد الشيخ علي سلمان، رئيس كتلة الوفاق النيابية البحرينية، على سلوك العنف لبعض الشباب في ذلك الحين، فقد نصحهم بالابتعاد عما يؤدي إلى الانفلات الأمني في ظل خيار الإصلاح الديمقراطي، مؤكدا ضرورة الحفاظ على الأمن الذي يشكل خيارا استراتيجيا. كما أكد أن العنف لا يولد إلا العنف والإرهاب، بينما يوجه حوار الحكمة لفهم اختلافات الرأي، ويبعدها عن الخلاف، ويبني جسور الثقة، ويشجع عمل الفريق، لتزداد إنتاجية المجتمع وتطور اقتصاده. كما وجه سؤالا للشباب حيث قال: «هل يجب أن تصبح الوفاق كالطفل الضائع تلحق بكل من يخرج في الشارع ويخترع برنامجه؟»، وأكد في جوابه أن جماهير الوفاق لن تكون مجرد خشبة تغرز فيها الأفكار المخترعة، ولا الوقود لهذه الأفكار. كما لن تجر الوفاق لمعركة لا تؤمن بها، ولن تجر الأمة بكاملها لطريق بسبب تحرك جنود للأمام.
وقد أكد أن خيار الإصلاح والعمل السلمي، الذي استغرق مدة ليتبلور ويتم تبنيه، «أصبح خيارا استراتيجيا»، مع إيمان بأهمية العمل التدريجي في الإصلاحات الديمقراطية، ولكن نصح بتجنب الإبطاء، وحذر الشباب من خطورة الاندفاع العاطفي ، الذي قد ينعشهم في الخيال، ثم ينزلهم للواقعية بخسارة مصالحهم بتضييع الوقت في الانفلات.
وأكد أن جمعية الوفاق ستستمر في العمل على استدامة الحريات والحقوق، التي اعتبرها محطة استراتيجية ومحورية كي يتمتع الناس بحق التنظيم والتعبير بحرية، وبحق الاعتصام والمسيرات وبكل الحقوق السلمية. ونصح بالابتعاد عن العنف بعد اختيار طريق الديمقراطية منهجا لاستدامة الحريات، والاعتماد على السلوك الديمقراطي في التعبير. كما حذر من أنه إذا فقدت هذه الديمقراطية التي تستمتع بها البلاد، فستعود البلاد عشر سنوات للوراء، وعلينا البدء بجولة جديدة من إرهاصات العنف في ظل قراءة الواقع المحلي والإقليمي والدولي المعقد التي لا يعلم نتائجها إلا الله، جل شأنه. «ولنعد من بعد معركة طويلة إلى النقطة نفسها، لنطالب من جديد بالحريات التي نعيشها اليوم والتي ستكون المحور الأساسي».
كما أكد الشيخ علي سلمان أنه من الممكن ممارسة الخيار الإصلاحي بتهيئة الأرضية المناسبة للجمعيات وأفراد المجتمع للمطالبة بحقوقهم واهتماماتهم، حيث هناك قنوات مفتوحة للعمل السياسي والاجتماعي للمواطنين، وأن خيار الإصلاح يستند الى العمل الجاد الدؤوب، وتحديد الأولويات واختيار الأساليب المناسبة لمعالجتها، ومن الضروري التحرك «بأدوات الواقع وليس بأدوات الشعر فقط أو أدوات الانفعال»، وبالعمل على إيجاد أدوات القوة السلمية لدفع هذه الأولويات. وأنهى خطابه بالقول: «هذا هو الخيار حسب فهمنا وقناعتنا، كما ناقشنا هذا الأمر على مستوى الوفاق والنخبة، فهذا النوع من العمل يراكم الايجابيات، ويزيل السلبيات، ويؤدي بعملية الإصلاح للتقدم إلى الأمام». وباختصار شديد فقد نصح رئيس المعارضة البرلمانية الشباب في عام ٢٠٠٧ بالاهتمام بالتعليم والعمل المتقن، والابتعاد عن الانفعالات العاطفية، وعدم استخدام العنف المرفوض عالميا كوسيلة للتعبير، والاعتماد على الأدوات الديمقراطية المتوافرة، كما طالب الشباب بالصبر والتأني لأن الإصلاحات الديمقراطية بطبيعتها تدريجية، ورفض التغيرات الثورية المفاجئة التي أثبتت التجربة غلاء كلفتها الاجتماعية والاقتصادية، وسلبية نتائجها الطويلة الأمد، مع بروز ديكتاتوريات جديدة مرعبة.
وقد لفت نظري في ذلك الوقت تعليق لأحد القراء في عام ٢٠٠٧ يقول فيه: «أود أن أشكرك يا علي سلمان على طرحك وأسلوبك الذي افتقدناه حقيقة لدى قوى وجمعيات المعارضة بأكملها، بسبب تعصبهم الأعمى، وأود أن يتعلم المغرر بهم من الشباب المتهور والمراهق، بما يستمعوا له من أصحاب النيات السوداء، ممن يستغلون طاقتهم الشبابية ومرحلة غرورهم وعنادهم، أن يتعقلوا ويدركوا أن ما يقومون به من تعبئة خاطئة تضر بمصلحة الوطن والمواطن، ودعوتي لكل من له نية صادقة بوطن أفضل، أن يتعقل ويطالب بحقوقه بالطرائق المشروعة والمنطقية، وليس بجر الشارع للحرق والخراب، فأنا أوجه دعوة للجميع إلى ان يتعلموا من شيخهم علي سلمان ولا يكونوا لقمة سائغة.. فيحاولوا جر الناس والمجتمع بأكمله للهاوية».
نلاحظ عزيزي القارئ كيف جرفت المعارضة المتطرفة الشأن البحريني لما هو اليوم، بعد ما استغلت بعض شباب المراهقة ودفعتهم لوسائل عنف مرفوضة عالميا، ومعارضة لقوانين حقوق الإنسان، كما اتهم الشباب في التعليق السابق بمراهقة التهور في تعاملهم مع الديمقراطية. فهل فعلا مرحلة المراهقة هي مرحلة تهور؟ وهل من الممكن أن تستغل سياسيا الاندفاعات العاطفية لهؤلاء الشباب؟ وكيف يمكن أن يتعامل المجتمع مع هذه المعضلة، ويقي شبابه من سلبياتها؟
يحدد الطب مرحلة المراهقة بالفترة بين الطفولة والبلوغ، التي تبدأ من سن الثالثة عشرة ولتنتهي مع نهاية سن الثامنة عشرة، وهي مرحلة انتقالية مضطربة، فترة الانفجار الهرموني والهياج العقلي وثورة الانفعالات العاطفية. ويحتاج التعامل مع هذه الفترة إلى الحكمة والاتزان، وإلى التعاون بين البيت والمدرسة والمجتمع، وهي الفترة التي تستفيد منها التنظيمات المتطرفة لتجنيد الشباب وغسل عقولهم، لذلك من المهم أن يعي المجتمع ورجال السياسة والحكومة والبرلمان أهمية وخطورة هذه الفترة في التوجيه والتعليم للوقاية المجتمعية من العنف والإرهاب.
وتصف علوم الطب تغيرات انتقالية مضطربة جسمية وجنسية وذهنية ونفسية وعاطفية في هذه المرحلة الحرجة من حياة الإنسان، فيتغير التفكير الذهني من مرحلة ما هو واقع الطفولة المحسوس، إلى واقع ما هو الممكن، فيتطور تدريجيا تفكير الاحتمالات، لينمو تفكير تجريدي يعتمد على المنطق لتحليل الوقائع المجتمعية. كما تتطور قدرات الاستبطان المسئولة عن مراقبة أسلوب التفكير الذهني والتعامل العاطفي، ويزداد انشغال المراهق بنفسه، ويحس بأنه تحت مجهر المراقبة وتقييم الآخرين، ويتطور تفكير البعد الواحد لتفكير متعدد الابعاد، فتتغير النظرة المطلقة للأشياء إلى نظرة نسبية. كما تزداد التساؤلات والحوارات وتقاوم الحقائق التقليدية المطلقة. وتتجلى التغيرات العاطفية بالطريقة التي تزداد ثقة المراهق بنفسه وقدراته على العمل بمفرده، ويزداد النقد الذاتي والإصرار على الانفراد باتخاذ القرارات الشخصية، والاستقلالية عن القيود المجتمعية.
وتحتاج مرحلة المراهقة إلى اهتمام تربوي وتعليمي مدروس، لبناء التوازن المطلوب في تعليم العلوم الطبيعية والروحية، لتهيئة الشباب للاستفادة من التطورات العلمية والتكنولوجية لتأسيس عالم السلام والديمقراطية والازدهار، بعيدا عن العنف والإرهاب، ولوقاية الشباب من الأفكار الانتهازية المجملة بالثورية والروحانية الكاذبة، يحتاج الشباب إلى التدريب للتعامل مع المعضلات الحياتية بتوازن يجمع بين الواقعية والمثالية ويتوسطهما السلوك الأخلاقي البعيد عن الحقد والانتقام، والمرتبط باحترام حقوق الإنسان وباتزان التعامل مع البيئة. ولنتذكر أن فلسفة العين بالعين لم تؤد الا إلى تحول العالم لعالم أعمى بالحقد والعنف والقتل والانتقام، كما نحتاج إلى تطوير التواصل الاجتماعي بتنمية الذكاء العاطفي لنستبدل بالحقد والانتقام زرع بذور الصبر والتحمل والعفو والعطف والحب، لبعث سعادة الحياة من جديد، بدلا من سواد ثقافة الموت.
ويجدر التنبيه إلى أن الأمراض النفسية والعصبية المتزايدة الانتشار، يمكن أن تبدأ أعراضها بالتمرد المجتمعي والعنف، وقد يختلط هؤلاء المصابون مع الشباب المسالم في المسيرات، فيقومون بالكسر والحرق. فمثلا مرضى الانفصام والعصاب النفسي وجنون الاضطهاد والعظمة يصابون بتخلف شديد في الانفعال العاطفي، وأحاسيس سمعية وبصرية كاذبة، والانفصال عن الواقع، وتخيلات بالاضطهاد والتعرض للقتل. وقد تترافق هذه الأعراض بتلف شديد في خلايا المخ وضمورها، لذلك من الضروري التعرف إلى هذه الفئة وتحويلها إلى العلاج.
وأنهي المقالة بسؤال للقارئ العزيز:هل لعبت الأحزاب السياسية، الحاملة لراية الدين في وطننا العربي، دورا في الوقاية من العنف والإرهاب، بغرس ثقافة ديمقراطية متوازنة بين المادة والروح، أم عوضتها بثقافة الديمقراطية الطائفية؟
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.