أفق
صعودُ الاشتراكيين الديمقراطيين
تاريخ النشر : السبت ١٢ مايو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
ليس شيئاً مذهلاً فوز الاشتراكيين الديمقراطيين الفرنسيين وصعود حزب العمال البريطاني وقوى اليسار اليونانية وتصاعد الحكومات اليسارية في أمريكا اللاتينية، فقد أوصل اليمينُ العالمَ إلى أزماتٍ خانقة قادتْ الكرةَ الأرضية كلها لمشكلات اقتصادية واجتماعية لم يسبق لها مثيل كالأزمات المالية التي سببها بذخ الطبقات الغنية لدرجة الاستهتار برؤوس الأموال ودفنها عن التداول والمضاربات بها، والتوجه للبذخ الإسكاني المسرف وغدا شراء البيوت بؤراً لتفجر الوضع الاقتصادي في العالم.
وقد أعطتْ كل الحكومات من اليابان مروراً بروسيا والصين إلى أمريكا الحريات المطلقة لرؤوس الأموال، واقتحاماتها الدول والقطاعات العامة وتحويل القطاعات العامة لقطاعات خاصة للأحزاب المسيطرة، أو لتفجر الخصخصة وبيع الممتلكات العامة برخص التراب عادة للرأسماليين الحكوميين والشركات التي تغدو واجهات لهم.
كما أنهم لم يكتفوا بتحويلِ قواعد الانتاج إلى سلعٍ رخيصة بل تحولتْ النقودُ إلى ورق متآكل لا قيمة له ينتقل عبر القارات ويصبح أقل قيمة دوماً.
كذلك تحولَ البشر إلى سلع تنتقل عبر الملايين من بلد إلى آخر، والشركات العابرة للقارات تهرب من البلدان العالية الأجور للمتدنية الأجور، فأمكن للرأسمالية العالمية أن تهيمن على عناصر الانتاج ورموزه النقدية لتتحول إلى فوائض، لكن الفوائض تتآكل وتوجيهها نحو البيوت الفاخرة والبذخ، وما يتبع ذلك من ديون وتآكل أجور وتخفيض الضرائب على أصحاب الأملاك الكبيرة، أدى إلى تدهور معيشة ملايين العمال والدول الفقيرة وارتفاع الغلاء وخاصة في المواد الأولية مواد الاستهلاك الشعبي، وراحت الشركات الوسيطة لنقل النفط تستغل المنتجين والمستهلكين على حد سواء، وتخلقُ جنونَ الأسعار في العالم.
وبطبيعة الحال يستطيع اليسار الديمقراطي أن يوظف هذه المعاناة الشعبية في عمله السياسي، ويكشف أخطاء سياسات الحكومات اليمينية، وهذا يجري في بلدان ذات تجارب اشتراكية سابقة، وبين جمهور من العمال والمتضررين الاقتصاديين ذوي الوعي، فغدت حتى سياسات الأحزاب اليمينية المعتدلة تضر بعيشهم.
كانوا في السابق يجدون بعض التطوير لظروفهم، بسياسات هذه الأحزاب المحدة للهجرة، والمركزة في فتح فرص العمل والاستثمار الواسعة، التي قامت على أساس بيروقراطية الحكومات الاشتراكية والعمالية السابقة وعجزها عن تطوير الظروف المادية للجمهور الشعبي.
وتلعب أصواتُ العمال الوطنيين والمهاجرين دورها الكبير في صعود وهزيمة الأحزاب، سواء بمعاقبة الاحزاب اليسارية العاجزة عن التطور، أو بإسقاط الأحزاب اليمينية التي تمادتْ في تجاهل مصالح الأغلبية الشعبية.
لكن في البلدان النامية ودول المعسكر (الاشتراكي) السابق والراهن كالصين، لا توجد هذه الطبقات العمالية المثقفة سياسيا، التي تستطيع أن تؤثر في السياسات الداخلية بقوة، نظراً إلى غياب شبكة الصحف والبرلمانات والبلديات المستقلة والحرة، فالطبقات الشعبية العمالية ضائعة هنا، وأمية، أو غير متعلمة، فهي تصوت لغيرها، أو تنعدم لديها فرص التصويت أصلاً.
من المؤمل مع تصاعد حكومات اليسار وتغيير رأسماليات الدول الشمولية في الشرق أن تتوجه الرساميل نحو الانتاج بشكل واسع، وتقل فرص المقامرة بالرساميل.
يتكون مصطلح (الاشتراكية الديمقراطية) من جانبين متناقضين، فالاشتراكية التي تفترضُ سيطرة العمال والمنتجين على الحكم تقبلُ بنظام رأسمالي تديره، وتوجه سياساتها نحو رفع الأجور وتصعيد الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة وطرح المشروعات ومراقبة الاستغلال الحاد، ورغم كل شيء تتأثر بالأجهزة والقوى الرأسمالية التي تتغلغلُ فيها، وتؤثر في قياداتها وقراراتها ونهجها الفكري، وكثيراً ما تتذبذب سياساتُها بسبب ذلك، وتصير منها قوى يمينية حادة، ولكنها تحافظ على نمو دور الطبقات العاملة والمنتجة وتطوير دخولها وثقافتها، عبر عقود، فشكلت حلقات تطور تاريخية، وتنامت القوى المدافعة عن البيئة والمهاجرين والسلام واستقلال الشعوب الأخرى وحُجمت أدوار الأحزاب الفاشية والدينية واليمينية المتطرفة، عبر تصعيد ثقافة حل المشكلات الحقيقية للناس من دون وقف عجلة التطورات الاقتصادية، على اعتبار أن الاشتراكية عملية طويلة الأمد وعالمية، وكما تشكلت واحتدت الرأسمالية خلال عشرة قرون فالاشتراكية تحتاج إلى زمن طويل تتنامى فيه المنجزات وتتحول الجماهير المنتجة ليس فقط إلى أدوات للإنتاج بل لقوى مثقفة متطورة، تغدو قدراتها المختلفة موظفةً للديمقراطية التي تصبح قرارات عميقةً للعيش والسيطرة على ظروف الانتاج المادي والانتاج الثقافي.