الثقافي
قصة قصيرة
الشاعـــــــــــــــــــر (2)
تاريخ النشر : السبت ١٢ مايو ٢٠١٢
ملخص ما سبق:
الراوي لا يهتم كثيراً بالمشاهير ولا يكترث بلقائهم أو حتى مصافحتهم، لكنه في أحد الأيام كان في زيارة إلى مدينة اسيجا الأسبانية الساحرة فتلقى عند وصوله دعوة من الشاعر الكبير دون كليستو لزيارته في بيته في اليوم التالي. وحينما وصل إلى العنوان دق الجرس فلم يرد عليه أحد.
دقّقت الجرسَ مرة ثانية ثم ثالثة وفي النهاية خرجت إلى البوابة امرأة عجوز بشارب كثيف.
«ماذا تريد؟» قالت.
عيناها سوداوان جميلتان لكن نظـرتها متجهمة وخمنتُ أنها المرأة التي تعتني بالرجل العجوز. أعطيتها بطاقتي.
«لديّ موعـد مع سيدك».
فتحت البوابة الحديدية وسمحت لي بالدخول. طلبت إليّ أن أنتظر وذهبت إلى الطابق العلوي. كان الفناء لطيف الجو بعد الشارع. مقاييسه ممتازة وتستطيع أن تستنج أنه قد بُني بواسطة أحد أتباع الفاتحين الأسبان إلاّ أن الطلاء فقد بريقه والقرميد الذي يكسو الأرضية تكسّر وهنا وهناك تجد قشوراً كبيرة من الجص قد سقطت. كان كل شيء تقريباً يوحي بالفقر لكن ليس بالقذارة. أعرف ان دون كاليستو كان فقيراً. المال كان يأتيه بسهولة في بعض الأوقات لكنه لم يعطه أبداً أي اهتمام وكان ينفقه بإسراف. من الواضح انه يعيش الآن في حالة بؤس لدرجة انه يترفع عن الملاحظة. في وسط الفناء توجد طاولة مع كرسي هزاز على كل جانب منها وفوق الطاولة جرائد تعود إلى ما قبل أسبوعين. تساءلت ما هي الأحلام التي تشغل خياله وهو يجلس هناك في ليالي الصيف الحارة يدخن السجائر؟ على الجدران، تحت صف الأعمدة توجد صور أسبانية، داكنة ورديئة وهنا وهناك تنتصب تحفة قديمة مغبرة وعليها صحن مرتق متلألئ. إلى جانب الباب علّق زوج من المسدسات القديمة وذلك ما أوحى إلي بأنها كانت الأسلحة التي يستخدمها في العديد من مبارزاته المشهورة من أجل بيبا مونتانيز، الراقصة (التي أفترض الآن انها أصبحت عجوزاً شمطاء بلا أسنان) وقتل دوق دوس هرمانوس.
المنظر مع كل ما يتعلق به الذي تنبأتُ به بغير وضوح يلائم كثيراً الشاعر الرومانسي لدرجة ان روح المكان غمرتني بالكامل. فقر المكان الجميل أحاطه بالمجد والعظمة كعظمة شبابه، وفيه أيضاً هناك روح الفاتحين القدماء وكان حريًا بأنه ينبغي أن يختم حياته الشهيرة في ذلك البيت المتهدم والعظيم. هكذا بالتأكيد ينبغي على أي شاعر أن يعيش ويموت.
حينما وصلت كنت أشعر بالبرود وحتى الضجر نوعاً ما على ما سيسفر عليه اللقاء، لكنني الآن بدأت أشعر بالتوتر قليلاً. أشعلت سيجارة. لقد جئت في الموعد المحدد ولا أدري ما الذي منع الرجل العجوز.
كان الصمت مزعجاً على نحو غريب. أشباح الماضي خنقت الفناء الصامت والدهر الميت والفائت نال نوعاً من الحياة (المظللة) بالنسبة إلي. رجال ذلك اليوم كان لديهم ولع ووحشية للروح اللتين اختفتا من العالم للأبد. نحن لم نعد قادرين على أعمالهم المستهترة أو بطولاتهم المسرحية.
سمعت صوتاً فأخذ قلبي يدق بسرعة. شعرت بالإثارة الآن وحينما رأيته أخيراً يأتي ببطء إلى الأسفل حبست أنفاسي. أمسك ببطاقتي في يده. كان رجلاً عجوزاً طويلاً ونحيفاً جداً ببشرة لونها كلون العاج القديم، شعره غزير وأبيض إلا أن حاجبيه الكثيفين لايزالان سوداوين وجعلا عينيه الكبيرتين تومضان بنار أكثر سواداً. كان شيئاً رائعاً أن تلك العينين السوداوين في مثل سنّه لا تزالان تحتفظان بتألقهما.
أنفه كان معقوفاً وفمه مطبقاً. عيناه غير المبتسمتين استقرتا عليّ وهو يقترب وكان فيهما نظرة تقييم بارد. كان يرتدي ملابس سوداء وفي إحدى يديه أمسك بقبعة ذات حافة واسعة. في وقفته ثقة ووقار. كان كما تمنيته أن يكون وبينما أنا أراقبه أدركت كيف كان يهيمن على عقول الرجال ويلامس قلوبهم. كان شاعراً في كل بوصة منه.
وصل إلى الفناء وأقبل نحوي ببطء. عيناه هي عينا نسر حقاً. للحظة هائلة، حيث المكان الذي يقف فيه، ان وريث الشعراء الأسبان العظماء، هريرا وفراي لويس النوستاليجي المتحرك، وجان دي لا كروز الصوفي، وجونجورا السيئ الطبع والغامض. كان هو آخر ذلك الخط الطويل ومشى على خطواتهم بجدارة. على نحو غريب تغنيت في قلبي بأغنية رقيقة وجميلة كانت أشهر أناشيد دون كاليستو.
شعرت بالخجل. كنت محظوظاً لأنني جهّزت مسبقاً العبارة التي سوف أحييه بها.
«إنه شرف كبير أيها السيد، لشخص أجنبي مثلي أن يتعرف إليّ شاعر عظيم مثلك».
رمشة من التسلية عبرت خلال تلك العينين الحادتين وأحاطت ابتسامة سريعة بخطوط ذلك الفم الصارم.
«أنا لست شاعراً يارجل، بل تاجر شعور غليظة. لقد أخطأت، دون كاليستو يسكن في البيت المجاور».
لقد أتيت إلى البيت الخطأ.