الجريدة اليومية الأولى في البحرين


هوامش


الحنين العثماني يدفعها نحو الشرق

تاريخ النشر : السبت ١٢ مايو ٢٠١٢

عبدالله الأيوبي



عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتهيأ لتنفيذ جريمة غزو العراق التي تمت في شهر مارس من عام 2003، سعت ادارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن إلى حشد أكبر عدد من الدول لدعم هذه الجريمة والعمل على إضفاء الصبغة القانونية عليها، ولكن المعارضة الروسية والصينية وأيضا الفرنسية حالت دون استصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي يجيز شرعنة هذه الجريمة، ومع ذلك استمرت إدارة بوش في حشد الدول لتأييد جريمتها في العراق وركزت في دول الجوار لتكون نقاط انطلاق لجيوش الغزو، ونجحت أمريكا في تهيئة قواعد أرضية مجاورة للعراق ولكنها لم توفق في الحصول على «الموافقة» التركية على استخدام الأراضي التركية لفتح الشمال العراقي أمام الجيوش الأمريكية.
تركيا في الحقيقة لم تعارض الغزو الأمريكي للعراق وإنما رفضت فتح حدودها أمام استخدام القوات الأمريكية لقاعدتها في تركيا أو استقبال قوات أرضية، وكان الموقف التركي منسجما مع موقف العديد من الدول الأوروبية التي عارضت الغزو، وكانت تركيا في ذلك الوقت تجاهد من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وكان هذا الهدف أحد أسباب عدم الانجراف وراء جريمة الغزو الأمريكية للعراق، إلى جانب أن تركيا كانت في الوقت نفسه تبحث عن دور لها في المنطقة العربية وبالتالي ما كانت لتنجر وراء جريمة الغزو التي واجهت رفضا شعبيا عربيا عارما.
لم يكن الموقف التركي من غزو العراق موقفا سياسيا مبنيا على مبادئ ثابتة، وإنما هو موقف انتهازي ينطلق من المصالح التركية فقط، وهي المنطلقات نفسها التي تقف عليها المواقف التركية الحالية من القضية الفلسطينية ومن الأحداث التي تمر بها سوريا في الوقت الراهن، إذ العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني علاقات تحالف استراتيجي قوية وما كان لتركيا أن تفرط في هذه العلاقات من أجل مصالح الشعب الفلسطيني، ناهيك عن أن علاقات تركيا بالكيان الصهيوني لها امتداد في واشطنون حيث تدرك أنقرة موقع الكيان الصهيوني لدى الإدارات الأمريكية المختلفة.
فالتحول التركي ناحية القضية الفلسطينية و«تعكر» صفو علاقات التحالف مع الكيان الصهيوني أو الدعم الذي تقدمه تركيا للجماعات المسلحة المناهضة للحكومة السورية، ليس خيارا استراتيجيا تركيا ولا تحولا جوهريا في التوجهات الاستراتيجية في السياسة التركية، وإنما هو خيار لابد منه بعد أن شعرت تركيا ووصلت إلى قناعة بأن أبواب عضوية الاتحاد الأوروبي مغلقة في وجهها، على الأقل في الوقت المنظور، حيث الطلب التركي للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي يواجه رفضا قاطعا من جانب أهم دولتين من دول الاتحاد وهما فرنسا وألمانيا، بل ان فرنسا صعدت في الفترة الأخيرة مواقفها السياسية في وجه تركيا حين طرحت إدارة الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي مشروع قانون تجريم إبادة الأرمن الذي واجه احتجاجا تركيا قويا.
في مثل هذه الظروف والمواقف السياسية التي تواجهها المساعي التركية للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي حيث وصلت الإدارة التركية إلى ما يشبه القناعة الآنية بأن أبواب الاتحاد الأوروبي قد أوصدت في وجهها فلم يكن أمامها من خيار لإثبات وجودها كقوة إقليمية، سوى أن تدير وجهها ناحية الشرق العربي بحثا عن إعادة لو جزء من الدور العثماني الذي تهاوى بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث كانت هذه الإمبراطورية تبسط نفوذها على المنطقة العربية وتقدم نفسها على أنها دولة الخلافة الإسلامية.
تركيا بلا شك تمثل قوة إقليمية لا يستهان بها، فهي ليست فقط عضوا مؤسسا في حلف الناتو ومثلت في فترة الحرب الباردة، إلى جانب إيران الشاه محمد رضا بهلوي، قاعدة الحلف المتقدمة على حدود الاتحاد السوفيتي السابق، وإنما دولة تمتلك كل مقومات القوة الإقليمية من حيث الإمكانيات البشرية والاقتصادية والعسكرية، لهذا لا يمكن أن تقبل تركيا لنفسها البقاء رقما هامشيا في المنطقة، خاصة أنها لم توفق في وجهتها الأوروبية، في الوقت الذي تتوافر فيه ظروف موضوعية ملائمة أمام تركيا للعودة إلى الشرق العربي.
اختارت تركيا البوابة الأكثر يسرا للدخول إلى الساحة العربية للعب دور إقليمي، وهي البوابة الفلسطينية حيث إن قضية الشعب الفلسطيني تحتل مكانة مقدسة وحيزا مميزا في وجدان الجماهير العربية وبالتالي فإن الموقف التركي «الداعم» للقضية الفلسطينية يحظى الآن بمباركة وتأييد من قبل الجماهير العربية، وهذا ما اتضح بعد الجريمة الصهيونية ضد سفينة المساعدات الإنسانية التركية العام الماضي، أضف إلى ذلك فإن السياسة الإقليمية الإيرانية تثير هواجس لدى بعض الأنظمة والشعوب العربية، وهذه الأطراف وجدت في الدور التركي عاملا مساعدا على مواجهة الطموحات الإقليمية الإيرانية.
ما نريد قوله هو أن «الدعم» التركي للقضية الفلسطينية أو الموقف من الأزمة السورية دوافعه البحث عن مساحة إقليمية تعوض أنقرة من خلالها خسارتها على الساحة الأوروبية.