الجريدة اليومية الأولى في البحرين


دراسات


مؤتمر مجلس الوحدة الاقتصادية حول الأثر الاقتصادي
لثورات «الربيع العربي».. عرض وتقييم

تاريخ النشر : الثلاثاء ١٥ مايو ٢٠١٢



مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
بتنظيم مشترك من مجلس الوحدة الاقتصادية العربية والشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية انعقد في القاهرة يوم الأحد 6 مايو مؤتمر يناقش الأثر الاقتصادي لثورات الربيع العربي، وكيفية الخروج من الأوضاع السلبية التي خلفها هذا الأثر على المستويين الوطني والقومي، وقد شارك في أعمال هذا المؤتمر لفيف من الاقتصاديين العرب، فضلاً عن رؤساء وزراء ووزراء سابقين وأساتذة جامعات وإعلاميين، وعدد من الاتحادات العربية النوعية المتخصصة، وكان الأستاذ الدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق متحدثًا رئيسيٌّا في الجلسة الافتتاحية التي شهدت أيضًا كلمات من ممثلي دول الربيع العربي كانت أبرزها كلمة المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان المصري الأسبق وكلمة ممثل الجمهورية اليمنية السفير محمد الهيصي، إضافة إلى الكلمات المعبرة عن أهداف هذا المؤتمر التي ألقاها السفير محمد محمد الربيع الأمين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية والسفير محمد بن إبراهيم التويجري الأمين العام المساعد للشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية.
وقد قدمت إلى المؤتمر عشرات الأوراق البحثية التي جرى تحكيمها واختيار أربعة عشر بحثًا منها تم عرضها ومناقشتها على مدى جلسات المؤتمر طيلة اليوم بأكمله، وكان ملاحظًا أنه وإن كان الوضع في مصر بحكم إقامة المؤتمر فيها قد حظي بالاهتمام الأكبر، فإن الأوراق البحثية تناولت أيضًا الأوضاع في ليبيا واليمن وتونس، وامتدت المناقشات إلى تناول الأوضاع في سوريا، وكانت النتيجة الرئيسية التي توصلت إليها الأوراق البحثية والمناقشات أن المفتاح الاستراتيجي للخروج من الأوضاع السلبية في بلدان الربيع العربي - وهي أوضاع قد تمتد تداعياتها إلى بلدان أخرى - يكمن في التعاون العربي، وهذا التعاون في ذاته يمثل ردا قويا على مساعي التفتيت التي تسير عليها قوى لا تبغي مصلحة الوطن العربي وترى في ضعفه وتفتيته ما يحقق مصلحتها، مستغلة في هذه المساعي البيئة التي مهدت لثورات الربيع العربي.
وقد سارت أعمال المؤتمر على 6 محاور، بدأت بحصر وتحليل المشكلات التي تعانيها دول الربيع العربي سواء على مستوى السيولة والإيرادات ومن ثم عجز الموازنات العامة وتفاقم الدين العام الداخلي، أو في نقص الإنتاج نتيجة انخفاض الاستثمار الأجنبي ومن ثم تراجع الصادرات وارتفاع معدلات البطالة، وكانت أبرز الأوراق البحثية التي قدمت في هذا المحور ورقة الأستاذ الدكتور علي لطفي رئيس وزراء مصر الأسبق ورئيس مجلس الشورى المصري الأسبق.ثم انتقل المحور الثاني إلى الحلول العاجلة للتغلب على المشكلات وتناول حزمة حلول للتغلب على مشكلة نقص السيولة والإجراءات المطلوبة لتغطية جزء من عجز الموازنات العامة وتوفير إمكانيات مالية لتشغيل المشروعات والمصانع المعطلة، ثم تناول المحور الثالث الحلول المتوسطة والطويلة الأجل للمشكلات سواء تمثلت في: تقديم قروض متوسطة وطويلة الأجل من الصناديق العربية ومؤسسات التمويل العربي لتمويل الاستثمارات في دول الربيع العربي، أو اتخاذ إجراءات من جانب الدول العربية لتشجيع الشركات لديها وقطاعها الخاص عمومًا للاستثمار في دول الربيع العربي، أو مطالبة المؤسسات المالية الدولية بزيادة القروض والمنح التي تعطى لدول الربيع العربي مع التخفيف من المشروطية التي تفرضها تلك المؤسسات، أو إتاحة فرص أكبر لأبناء بلدان الربيع العربي في أسواق عمل الدول العربية المستوردة للعمالة، أو تنفيذ مشروعات داخل دول الربيع العربي تمول باستثمارات عربية لتشغيل القوى العاملة بهذه الدول، أو تنشيط التجارة البينية للدول العربية وإعطاء أولوية للاستيراد من دول الربيع العربي.
ولقد انتقل المحور الرابع إلى الإجراءات المطلوب القيام بها من جانب دول الربيع العربي من قبيل العمل على زيادة الإيرادات العامة بها من المصادر المحلية، وترشيد النفقات العامة وقصر الاستيراد على السلع الضرورية، وتأهيل العمالة العربية كي تكون منافسة للعمالة غير العربية، والتنسيق على المستويين الحكومي والخاص في إقامة المشروعات، وقيام الحكومة بواجبها في توفير بيئة الأعمال الجاذبة للاستثمار، وكانت أبرز الأوراق البحثية التي قدمت في المحاور من الثاني إلى الرابع إضافة إلى ورقة الأستاذ الدكتور علي لطفي ورقة الدكتور رأفت رضوان التي تناولت الحلول العاجلة لمشكلة عجز الموازنة في دول الربيع العربي، وورقة الأستاذ الدكتور محمود عبدالحافظ التي تناولت التحديات الاقتصادية في المرحلة الراهنة وسبل العلاج، وورقة الأستاذ الدكتور طالب عوض وراد حول النمو الاقتصادي والتوزيع، وورقة الدكتور محمود أبوالوفا حول تفعيل دور الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وورقة الدكتور عبده مهدي عن تنشيط التجارة العربية البينية، وورقة الأستاذ الدكتور صلاح زين الدين عن التكامل الاقتصادي بين مصر وتونس وليبيا.
أما المحور الخامس فاختص كله بليبيا من حيث: حاجتها للبناء وإعادة الإعمار والمجالات ذات الأولوية، وإمكانية استفادة ليبيا من خبرات بعض الدول العربية، والعوامل التي تعوق هذه الاستفادة، وكيفية التغلب عليها، وكانت أبرز الأوراق البحثية المقدمة في هذا المحور ورقة الأستاذ الدكتور محمد صفوت قابل: ليبيا ومشاكل ما بعد الثورة.
وأخيرًا ناقش المحور السادس والأخير المسؤولية المجتمعية لشركات القطاع الخاص تجاه دول الربيع العربي وما يتعلق بمساهمة الشركات في حل مشكلات الفقر والجهل والمرض من خلال الاستثمار في مجالات الصحة والتعليم أو المساهمة في توظيف الأفراد وتقديم إعانات للفقراء، ومن أبرز الأوراق المقدمة في هذا المحور إضافة إلى ورقة الأستاذ الدكتور علي لطفي ورقة باحثين في مجلس الوزراء المصري عن الاقتصاد بين الأمن والعدالة الاجتماعية.
وقد حظيت الأوراق المقدمة في المحاور المختلفة بمداخلات وتساؤلات ومناقشات متعددة تناولت خصوصا مقترحات الحلول ومدى ترابطها وجدواها، من ذلك المناقشة حول تخفيض سعر الصرف كآلية لزيادة الصادرات وما يمكن أن تحدثه من آثار معاكسة في ارتفاع معدلات التضخم نتيجة زيادة فاتورة الواردات، ومن ذلك أيضًا العلاقة بين الحلول العاجلة وتلك المتوسطة والطويلة الأجل المتمثلة في المشروعات القومية الكبيرة، ومن ذلك أيضًا مدى إلمام الأوراق البحثية المقدمة عن الحالة الليبية بتطورات الأوضاع على الأرض.
ويمكن إجمال الآثار الاقتصادية لثورات دول الربيع العربي كما تناولتها الأوراق في تزايد عجز الميزان التجاري لهذه الدول نتيجة عدم قدرة الصادرات المتناقصة على تغطية الواردات المتزايدة، وتحول فائض ميزان المدفوعات الذي كانت تحققه إلى عجز نتيجة انخفاض إيرادات السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر والتحويلات الرسمية، وتزايد عجز الموازنة العامة للدولة بسبب عدم قدرة الإيرادات على ملاحقة النفقات، وتناقص الإنتاج الصناعي بسبب إغلاق مئات المصانع، وتزايد خسائر أسواق الأوراق المالية نتيجة تردي الأوضاع الأمنية وخروج العديد من المستثمرين، وتراجع تنافسية هذه البلدان، وتزايد الدين العام الداخلي والخارجي لتغطية احتياجات السيولة والنفقات والواردات، وتناقص احتياطي النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية بسبب تزايد السحب منه، وانخفاض سعر صرف العملة المحلية، وانخفاض عدد الشركات الاستثمارية التي تم تأسيسها في فترة ما بعد الثورة مقارنة بما قبلها، وانخفاض رأس المال المصدر لشركات الأموال التي تم تأسيسها، وانخفاض توسعات رأس المال المصدر بسبب ضعف الثقة بالاقتصاد، وانخفاض الصادرات وارتفاع معدلات التضخم نتيجة نقص الإنتاج، وتزايد حالات إفلاس المنشآت الفردية والشركات نتيجة عدم القدرة على السداد، وتزايد حدة وخطورة مشكلة البطالة بسبب إغلاق المصانع والمنشآت، وزيادة حالات التعدي على الأراضي الزراعية بإقامة المباني عليها أو تجريفها نتيجة ضعف إعمال القانون، وتراجع الاستثمار العربي والأجنبي وتخفيض التصنيف الائتماني أكثر من مرة، وتراجع مكانة دول الربيع العربي في مقياس أداء الأعمال، وانخفاض أعداد السياحة الوافدة إليها، وقد كان هذا التراجع في كل من هذه العناصر السابقة كبيرًا وسريعًا وفوق قدرات الإدارات المؤقتة للفترات الانتقالية التي أعقبت ثورات هذه البلدان على إدارته والحد منه وتحمله.
غير أن هذه الآثار السلبية الضخمة هي نتيجة تراكمات تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهذه البلدان الذي كشفته هذه الثورات، ولعل المفتاح الرئيسي لاحتواء هذه الآثار لدى كل بلد من بلدان الربيع العربي هو توفير الأمن والأمان والاستقرار فغياب الأمن طارد للاستثمار الذي يعد أهم مقومات النشاط الاقتصادي، فضلاً عما يتسبب فيه من إغلاق المصانع وارتفاع كُلفة النقل وارتفاع نسبة التغيب في المؤسسات العامة والخاصة.
فإذا ما تحقق هذان الأمن والاستقرار يمكن لإدارة النشاط الاقتصادي في هذه البلدان توفير حلول عاجلة عبر الإصلاح الضريبي وإصلاح الإنفاق العام، وإعادة هيكلة نظام الأجور، وعلاج مشاكل الدعم والصناديق الخاصة، وتشجيع الصناعة الوطنية، وتطوير الأجهزة الرقابية، وتعديل أسعار موادها الخام المصدرة لتكون وفق الأسعار العالمية، وتوجيه اهتمام خاص للتنمية الزراعية والريفية، وإدماج القطاع غير الرسمي، وسرعة استرداد الأموال المنهوبة المهربة للخارج، وتدوير المخلفات، وبعض الدعم العربي، وتخفيض الاحتياطي القانوني الذي تحتفظ به البنوك لدى البنك المركزي، وقد مثلت هذه الحلول قواسم مشتركة بين الأوراق البحثية وإن اختلفت في الوزن النسبي وترتيب الأولويات، غير أنه كما سبق أن ذكرنا تظل هذه الحلول قاصرة في غيبة تعاون عربي يأخذ بهذه البلدان إلى بر الأمان. كما أن هذا التعاون يصب أيضًا في مصلحة البلدان العربية المقدمة لهذا العون.
وقد تطرقت الأوراق البحثية في هذا السياق إلى تعاون ثلاثي بين مصر وليبيا وتونس، ولجأ البعض إلى إحياء فكرة مثلث الأمل بين مصر وليبيا والسودان، أي تكامل العمالة المصرية بمستوياتها المهارية المختلفة مع الموارد الطبيعية السودانية والفوائض المالية الليبية واستنكر هذا الاتجاه قصور الطرق الممهدة التي تربط بين هذه البلدان وتشجع انتقال الأفراد والسلع ورؤوس الأموال، وتطرق التعاون بين هذه البلدان إلى إلغاء القيود على حركة السلع والأشخاص ورؤوس الأموال وتنسيق السياسات الاقتصادية خاصة في النواحي المالية المتعلقة بمنع الازدواج الضريبي أو النواحي النقدية من حيث قبول التعامل بالعملات المحلية لهذه الدول بدلاً من الدولار أو اليورو وأهمية تطوير وتنسيق النظم التعليمية بين البلدان الثلاثة وإقامة مشروعات زراعية مشتركة وخطوط نقل مشتركة والتعاون بين أنشطة القطاع الخاص والأنشطة الحكومية والتنسيق والتعاون في السياسة الخارجية والمجالات الأمنية.
بيد أن التعاون العربي في مجاله الأوسع الذي يشمل كل البلدان العربية كان مجال توافق معظم الأوراق البحثية، والمداخلات التي تمت في المحاور المختلفة وهو الموضوع الذي يفرض نفسه على الفعاليات المختلفة لجامعة الدول العربية بكل مستوياتها من المستوى الفني إلى مستوى القمة في دوراتها العادية والاستثنائية سواء تعلق تعميق هذا التعاون في تطوير منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وشمولها أو انتقالها إلى مرحلة الاتحاد الجمركي أو إعطاء أفضليات وشروط وأسعار تفضيلية للبلدان العربية المتضررة خاصة في السلع الاستراتيجية كالوقود، أو تقديم دعم مباشر من الصناديق السيادية العربية ومصارف التنمية العربية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها تمثل أولوية عاجلة سواء في زيادة الإنتاج أو توفير فرص العمل بما يقلل من إشكالية البطالة، وخاصة تلك المشروعات المغذية المرتبطة بصناعات كبرى كصناعة السيارات مثلاً، أو تشجيع السياحة البينية العربية خاصة للمناطق البعيدة عن القلاقل الأمنية، وفي هذا التعاون العربي يلعب مجلس التعاون الخليجي الدور القيادي والمسؤولية التاريخية بما يعيد إلى الأذهان الدور الذي لعبته بلدان الخليج العربية في دعم صمود دول الطوق العربية في أعقاب نكسة 1967 وفي التمكين للانتصار العربي في حرب 1973، والدور الذي تقوم به هذه المنظومة حاليا في احتواء الأزمة اليمنية، وهذا الدور المتوقع ليس مستغربًا عن منطقة كانت مركز انطلاق العروبة والإسلام وتأخذ على عاتقها مسؤولية صيانتهما.