الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


عبدالخالق السامرائي بين النبلِ والخيال (1-2)

تاريخ النشر : الخميس ١٧ مايو ٢٠١٢

عبدالله خليفة



ثنائيةُ المثقفِ النبيل وقوى العسكر الدموية ثنائيةٌ ضاربة الجذور وضارية الملامح في صعود رأسمالية الدولة الشمولية، ففيما يريد المثقف تحويل المجتمع اشتراكياً على أسس من (العدالة) تتوجه قوى العسكر إلى مشروعاتها الخاصة التي يتحكم فيها شخصٌ قيادي عنيف عادة.
هذه الدراما الصراعية تتكونُ بفضل انقلاباتِ النخب حيث تغدو دكتاتورية، فأسسُ المجتمع الليبرالي أو التحديثي ذي التطور شبه الديمقراطي تُزال، وتعتبرُ مسألة الإزالة أساسية فتلك النخبة قادت بـ (ثورتها) أو بانقلابها الذي سمتهُ ثورةً، فقطعتْ التطور موادَ شبه الديمقراطي المبثوثة في الحياة الشعبية أو لدى بعض المثقفين المتصفين بالنزاهة كما هو حال عبدالخالق السامرائي، الذين يمثلون رموزاً لتلك البذور النضالية الديمقراطية التي التبس عليها التطور.
وكما رأينا سابقاً العلاقة الملتبسة بين بوخارين وستالين، هي مثل هذه العلاقة بين السامرائي وصدام حسين، لكن كانت علاقةُ المثقف النزيهِ بالدكتاتور في التجربة الروسية أسبق، وقد وضعتْ التجربةُ الروسيةُ حجرَ الزواية لرأسماليةِ الدولة الشمولية (الرائدة) لبقية التجارب المماثلة.
ولكن عبدالخالق السامرائي لم يقرأ التجربةَ السابقة بهذا الشكل بل هو رآها خلاقةً مفيدةً صالحة كنموذج.
إن العناصر الفكرية والاجتماعية له جاءت من الوعي الديني الغائر، الوعي الرسالي، المتقشف، المضحي:
«يُكنى (أبودحام) وهي كلمة تُطلق على الرجل المتدين في اللهجة العراقية من عائلةٍ كريمة وفاضلة تحملُ قيماً نبيلة فوالده ينتمي إلى قبيلة الجبور».
إن غيابَ التطور الرأسمالي الطويل في القبائل والمدن الصغيرة ووجودَ ملكياتٍ مشتركة ومراع وتجذر القيم العشائرية التعاونية يؤدي إلى نموذج هذا الإنسان المتشبع بمشاعر العدالة وبنقلِ الناس إلى أشكال رفيعة من التطور العادل من دون تراب وصراعات الرأسمالية البغيضة!
وهي نماذجٌ كثيرة من تولستوي حتى هادي العلوي مواطن ومفكر من العراق نفسه الذي يعيشهُ عبدالخالق.
لكن انتقال العراق عبر انقلاب 1968 البعثي وضع السلطة الدكتاتورية ضمن مجموعة عسكرية سياسية صغيرة، قادتْ صراعاتُها لوضع الحكم في يد رجل واحد، مثل التطور الروسي، لأنك حين تنشئ دولةً دكتاتورية فإن السلطة الجماعية تُلغى ويظهر المتحكم الأوحد حسب الآلية التي صنعتها الجماعة، وعبدالخالق من الذين ساهموا في إيجاد هذه الآلية.
لقد كانت تطوراتُهُ الفكرية والسياسية والشخصية خصبة:
(من أهم قادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. يعده كثيرٌ من البعثيين مفكرَ ومنظر الحزب في العراق وأحد مناضليه وشخصية قلَّ نظيرُها على مستوى البعثيين ويحظى باحترامهم. كان المسئول الحزبي للرئيس السابق صدام حسين في خمسينيات القرن الماضي)، (ألف العديدَ من الكتب وخصوصاً في الاشتراكية، عُرف بزهدهِ وتواضعه الشديد وعدم استغلاله لمنصبه وللسلطة لذلك لقب بدرويش الحزب).
قام السامرائي بنقلِ تصوراته القبلية التعاونية، إلى عالم الاشتراكية، وهذا لا ينفصل عن منظومة البعث الدينية حيث تُبعثُ الأمةُ من جذورِها، وتدخلُ في سلك الحداثة، موظفةً قيمَ دينها الفاضلة للانتقال إلى نظام العدالة الاشتراكي من دون المرور بالمرحلة (الرأسمالية القذرة).
إن منظومة التشكيلات والطبقات كلها تُلغى أمام الذات السياسة المسيطرة القادرة على القيام بالمعجزات والقفزات التاريخية، إضافةً إلى أن الحزب هو الآخر يصيرُ جوهراً نقياً، ويستطيع القيام بالجرائم السياسية والقفزات الكبرى التحولية من دون أن تتلوث يداه، أو تدخلهُ صراعاتُ الطبقات.
ومن هنا فإن عبدالخالق أمام غياب قراءة تاريخ الشرق وعبر خلق التعميمات المؤدلجة المضلّلة، يتحركُ على المسرح السياسي في الوطن والحزب على أرض زلقة تتصاعدُ صراعاتها.
صراعُ العسكرِ والمثقفين الحزبيين أصحاب النزاهة، لا يتراءى للسامرائي كصراع اجتماعي معبر عن دكتاتورية متصاعدة لرأسمالية الدولة، بل كصراعات شخصية رفاقية حول سبل التطور، فكلهم أنقياء، في حين أن الأمور مختلفة تماماً:
(بقي يدور(عبدالخالق) في نشاطه بعد تسلم السلطة عام 1968 على محور الثقافة رافضاً بإصرار أن يحمل حقيبة وزارية متفرغاً لشؤون التنظيم الثقافي كما كان صدام حسين متفرغاً لشؤون مكتب العلاقات الخاصة بالاغتيالات فجمعَ الأولُ حوله مثقفين وشعراء ورجال سياسة ونال ثقتهم، وجمع الثاني حوله القادرين على النهوض بأعمال الاستجواب والتحقيق واستخدام حوض الاسيد).
هذا الاختلاف لم ينظر إليه السامرائي بوضوح، فلم يقف ضد القمع الوحشي الذي قام به الحزبُ لليسار وللقوى الديمقراطية العراقية، بل كان جزءًا منه، وبالتالي فهو لم يختلف كثيراً عن بوخارين ومأساته.