زاوية غائمة
الحفظ بالتلقين ضرورة أيضا
تاريخ النشر : الخميس ١٧ مايو ٢٠١٢
جعفر عباس
أعتقد - وأعتقد أن ما أعتقده هنا صحيح إلى حد كبير- أن التعليم الحقيقي يستوجب إرغام طالب العلم على حفظ بعض الأشياء في ذاكرته، وأعتقد بالتالي ان التكنولوجيا الحديثة أضعفت الحصيلة المعرفية لكثير من الطلاب، فأنت تجد في الإنترنت أجوبة عن كل الأسئلة المتعلقة بالمواد الأكاديمية وبالتالي «تأكلها والعة»، وهي العبارة المصرية التي تعني نيل الشيء من دون بذل جهد للحصول عليه.. مثل تسجيل هدف من ضربة جزاء نتجت عن أن زميلا لك أصيب أمام مرمى الخصم وأخرجوه من الملعب بنقالة، وكنت أنت تجول في الميدان طوال الوقت كدرويش في حالة «جذب»، وتم تكليفك بضربة الجزاء فأحرزت هدفا وأحرزت معه إعجاب الملايين، والحصول على معلومات عن طريق غوغل وغيره من محركات البحث لا يختلف كثيرا عن ضربة الجزاء، فالمعلومة المطلوبة جاهزة في نقطة معينة كما الكرة أمام المرمى وكل المهارة المطلوبة منك هي كط آند بيست.. اقطع والصق أو اطبع، وهكذا تنزل المعلومة على الورق من دون أن تمر بدهاليز دماغك للتعرض للغربلة والتخزين في الهارد ديسك الجسماني.
على أيامنا كان المدرس يدخل حجرة الدراسة ويبدأ: 9 في 12 وإذا لم تجب خلال ثوان معدودة... طاخ على الوجه أو ضربة بالمسطرة على اليد أو بعصا الخيزران، ومطرح ما تسري تهري.. في أي عام بدأت الحرب العالمية الثانية؟ في عام الفيل يا أستاذ... وهل بدأها هتلر أم أبرهة يا فالح؟ طاخ طراخ.. ما هي تهجئة كلمة إيناف hguone وعليك أن تكون مدركا أنه لا وجود لحرف إف (ف) في الكلمة وأن الحروف الأربعة الأخيرة في الكلمة لا لزوم لها ولا معنى لوجودها، ولكنك لن تفلح في تعلم الإنجليزية ما لم تحفظ تهجئة كلماتها الواحدة تلو الأخرى... ما هي أركان الإيمان؟ الشهادتان والصلاة.. بس يا.. طاخ.. هذه أركان الإسلام.
والشاهد هو انه لا غوغل ولا ويكيبيديا ولا أي موسوعة الكترونية تستطيع ان تقوم مقام الدماغ البشري، فلابد أن تعرف بالضبط متى غزت قوات ألمانيا هتلر النازية الاتحاد السوفيتي (يونيو 1941)، وخسرت أكثر من 90% من جنودها وعتادها، وكان فشل هتلر في تلك الحرب هو الذي أدى إلى نهاية حكمه بدخول السوفيت برلين ورفع علمهم فوق الرايخستاغ.. ومعلوم ان الشتاء وما يصاحبه من ثلج وجليد أسهم في النصر السوفيتي على الألمان كما أسهم من قبل في إفشال محاولة نابليون احتلال روسيا.. يعني لو بدأ الغزو في مارس مثلا لتغيرت نتيجة الحرب، والشاهد هنا هو أن هناك حاجة للدماغ ليكون جاهزا لمعرفة أجوبة وتفاصيل أمور معينة من دون الحاجة إلى الاستنجاد بمرجع ورقي أو الكتروني.. راقب أي «صنايعي» لم يستطع مواصلة تعليمه وهو يحسب لك كلفة طلاء كذا غرفة أو تمديدات شبكة مواسير او أسلاك كهربائية.. انتبه إلى السباك الذي استعنت به لإصلاح عطب ما في تمديدات المجاري وانظر كيف يحسن التصرف مع توصيلات من الهند والسند وايطاليا باستخدام العقل وليس غوغل.
أكثر طلاب العالم نبوغا في العلوم والرياضيات تجدهم في الصين وسنغافورة وكوريا، ورغم تقدم البلدان الثلاثة في مجالات التكنولوجيا فإن الأنظمة التعليمية فيها تقوم أساسا على تشجيع تخزين المعلومات في الدماغ (الحفظ).. وللمرة الـ735 أقول للطلاب في المرحلة الثانوية أتقنوا لغتكم العربية، واهتموا باللغة الإنجليزية، ولكن من يريد منكم مستقبلا باهرا عليه باللغة الصينية، ومرة أخرى أذكركم بأنه طالما ان طفلا صينيا في الثانية من العمر يستطيع التخاطب بها فلا شيء يمنعك من إتقانها استعدادا لركوب الموجة عندما تصبح الصين القوة الاقتصادية الأعظم في العالم بعد عشر سنوات.
jafabbas19@gmail.com