الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


عبدالخالق السامرائي بين النبل والخيال (2-2)

تاريخ النشر : الجمعة ١٨ مايو ٢٠١٢

عبدالله خليفة



يتوجهُ عبدالخالق السامرائي كقيادي حزبي بعثي في سبعينيات العراق في القرن الماضي لتحويل أفكاره الخيالية إلى واقع.
تلك المآثر الاجتماعية التعاونية وشمائل القبائل الفروسية التي يجب أن تدخل حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب مترددٌ بين اليمينِ واليسار، بين الإسلامِ والحداثة، بين هيمنة الجيش وتصعيد دور القوى المدنية.
هو ينقلُ تصوراته لميدانِ التطبيق العملي، محاطاً بمثقفين، وبعلاقات مع قوى التحرر العربي، واليسار في العالم، ولكن حزبَ البعثِ كان على العكس يتجهُ إلى اليمين؛ صلاح جديد في سوريا الذي يقوم بتطبيق النمط نفسه يفترسهُ الأسد ويجعله في السجن الأبدي.
والقيادة القومية أصبحت في توجه يميني، ولكن أي يمين؟ هل هو اليمين الرأسمالي الغربي الديمقراطي؟
لا، إنه يمينٌ غيرُ واضح، يتشكلُ في غبشِ العلاقاتِ الاجتماعية بين رأسماليتي دولةٍ في العراق وسوريا، لكل منهما مسارها، الذي تكونُهُ قيادةُ الدولة والقوى الاجتماعية التي تهيمنُ عليها، وفيما تتحددُ سوريا بسلطةٍ عسكرية مذهبية من لون، تتحددُ رأسماليةُ الدولة في العراق بعسكر ومن لون مذهبي آخر، ولهذا سوف يجرى تصعيدُ الطائفية وليست القومية العربية.
أما مسائل دور الحزب الطليعي في بث القيم الديمقراطية والثقافة التنويرية فهو دورٌ مخطوف، لأن الثقافةَ هنا غيرُ ديمقراطية تعددية، والسلطة في كل من البلدين تتمركزُ أكثر فأكثر، وتابعة للمجموعات المتنفذة توزيعاً ومصلحةً.
ولهذا فإن عبدالخالق السامرائي كقائدٍ سياسي ثقافي يجد مهماته الثقافية ضائعة، غير قادر على النفاذ للجمهور وتثقيفه وتحويله للمشروع السياسي الذي يريده.
لكنه لا ينشئ مجموعةً تسربُ رؤيته شيئاً فشيئاً بل يُسرع في إصدارٍ كتبٍ تعرضُ هذه الفكرة، وهي التوجه للاشتراكية، وتحويل حزب البعث اليميني إلى حزبِ عمال.
وإذا كان صلاح جديد قد شكل تجربته الطفولية (الاشتراكية) وأسس رأسمالية دولة ذات قيادة عسكرية وأراد أن يوغلَ في التأميمات فإن النفوذَ اليميني العسكري قد عالج هذا (الانحراف) بحركةٍ (تصحيحية) أبقت رأسمالية الدولة العسكرية مع تنمية نفوذ الرأسماليين فيها.
لكن السامرائي لم يكن من هذا النمط الانقلابي ولا من المولعين بذاتِهم المنتفخة الباذخة، ورأى أن ثمة ظروفاً ناضجةً في العراق لدولة كادحين حقيقية.
حين نشر كراسه الداعي إلى ذلك ارتعدتْ فرائصُ الحزب، الذي قام على هزيمةِ مثل هذا المشروع كما تجلى في منافسهِ الحزب الشيوعي.
احتوى العراق على أكثر النماذج الثقافية المرهفة لأوضاعِ الفقراء المثقلة بالعذابات والثورات على مر التاريخ، ولهذا فإن القفزةَ التاريخيةَ كانت هاجسا ملحا لهم، وظهرتْ على أشكال مختلفة، وظهرت لدى السامرائي وهو يتجولُ بين ممرات قوى مفترسة، وخاصة عند تلميذه السابق والصاعد بقوة في الحزب وهو صدام، ولهذا فإن مشروعَ تحويل حزب يميني إلى يساري مسألة معقدة وخطرة.
هذا الحزبُ المشتتُ في جذور اسمه وتكون من حزب يميني وحزب يساري، جمعتهما في سوريا علاقاتٌ شخصية حزبية، لم يتحول لدرسٍ عميق واختيار دقيق بين الاشتراكية والرأسمالية، وجاء بتناقضاتهِ لبيئةِ العراق، وأُخذ كقوةٍ ضاربةٍ ضد اليسار، وتغلغل في أدوات الجيش والسلطة والعنف والعشائر، لكن تلك التناقضات ظلت فيه، ويمثل السامرائي تلك الجذوة ذات الطهرانية الخيالية التي تتصور إزالة التناقضات العميقة عبر اللغة الثقافية الحماسية، ومن هنا كان كراسه ليس أداةً لتحويل الحزب لحزبٍ عمالي بل لتوجهه نحو الفاشية.
حتى العناصر اليمينية ذات الاستشراف الإنساني كميشيل عفلق تم إبعادها، فمع تصاعد العسكرة فإن العناصر «النهضوية» الفردية التي من الممكن أن تكون ذات أدوار مختلفة تُلغى وتصفى بحكم الآلة العسكرية الأمنية التي تغدو السلطة المطلقة.
وهذا التمركز في الحزب يعودُ به لدوائر التخلف المذهبية والقبلية التي نهض على تجاوزها واستبدال منظومة الحداثة بها، مثلما صعّد ستالين القوى السكانيةَ المتخلفة ونحى العناصرَ المفكرة البارزة في الحزب، وهذه الدروس كانت على مرأى المسرح الحزبي نفسه للسامرائي كما حدث الأمر ذاته في سوريا وكانت الأجسامُ تتطاير محترقةً وهاربة.
إن روح الفروسية والنبل وتلك التقاليد الشعبية المدافعة عن الفقراء ونقلهم لعالم آخر، تشد السامرائي بحيث لا يقرأُ الخريطةَ الاجتماعية الموضوعية، ولكن هذه الدونكيشوتية الحلمية غير موجودة في عالم الضواري، فلا يرى المواد اليومية عن الاغتيالات واختفاء الشخصيات بأشكالٍ تآمرية.
لقد رسخَ في ذهنه انه قادرٌ على تغيير الحزب وتوجيهه نحو ما يراه، وخلق ثقافة سياسية مختلفة وعبر أدوات الحزب التنظيمية، فيما هذه القواعد التنظيمية مخروقة من كل مسامها.
لكن حقيقةَ الحزب ظهرتْ له في آخر أيامه، وربما لو كَتبَ شيئاً، أو أوصل مادة ثقافية لربما كانت تمثل آخر أسئلته وملاحظاته على خيالٍ عاش فيه، ونظام هو ليس للفقراء بل لأعدائهم، وعلى كارثة شخصيةٍ حَلت به، فمن القيادة إلى السجن والإعدام، ومن النضال المشترك مع الرفاق إلى بطش رفاق به بتهمة التآمر على الحزب والنظام.
هي دروسٌ للذين يسهمون في الشموليات المختلفة وهي تنمو وتطحنهم في آلتها التي قاموا هم بتصعيدها.