قضايا و آراء
اليسار الجديد.. بين مغامرتي التطرف والتبعية
تاريخ النشر : الجمعة ١٨ مايو ٢٠١٢
تطرقنا في المقالة السابقة، إلى الموقف المبدئي السلبي لأحد القادة الشيوعيين المعارضين السوريين، وهو الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري الموحد (حنين نمر).. وما يتمخض عن هذا (الموقف المبدئي) من تبني صاحبه أفكارا ترجيحية وانتقائية وتحريفية، وأطروحات ديماغوجية وتسويغية وبراجماتية، أساءت هذه (الأفكار والأطروحات) إلى أصول الفلسفة الماركسية، وأصابت قوانينها وثوابتها في مكمن ومقتل، وذلك بسبب ما ارتكبه (حنين نمر) من أخطاء ومواقف مبدئية جسيمة، دفعت به إلى أن يغض الطرف عن تلك الخريطة السياسية المرسومة للتحالف الاستراتيجي الثلاثي الأضلاع والقائم ما بين النظام السوري والنظام الإيراني وحزب الله اللبناني.. وتجاهله تلك المذابح والمجازر التي ارتكبها النظام السوري بحق المعارضة السورية وذبح الشعب السوري.. إذ لم ينبس صاحبنا بأي كلمة شجب أو احتجاج حول هذه المأساة الإنسانية بحق أبرياء مدنيين عزل لا حول لهم ولا قوة. وخلال مقالتنا هذه فإننا سنتناول مواقف بعض من الشخصيات الكاريزمية القيادية من المفكرين اليساريين والماركسيين على حد سواء، الذين أكدوا بـ (الأمس) وخاصة في العقود السابقة حتى عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، مواقفهم المبدئية الثابتة والواضحة الرؤى والأبعاد، فظلوا أمناء على انتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية غير مساومين على مبادئهم البتة، ولم يتزحزحوا قيد أنملة عن مواقفهم الحزبية والعقدية.
ولكن ما يؤسف له القول: إن الحال ليس بدوام المحال، ذلك بسبب انتكاس هذه الشخصيات الكاريزمية القيادية السالفة الذكر، لما وصلت إليه من الحال المؤسف (اليوم) بتهاويها إلى حضيض السلم الأيديولوجي.. لانسلاخ هذه (الشريحة المأزومة) عن منظومتها الفكرية وتحولها من النقيض المتقدم إلى النقيض المتخلف.. لتأثر هذه (الفئة الطفيلية) بالدرجة الأولى بمساوئ انعطافات المرحلة التاريخية، منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، التي اتسمت (تلك المرحلة) بالمد الأصولي لتيار الإسلام السياسي وثورة ولاية الفقيه الإيرانية الفاشية، وعملية انهيار المعسكر الاشتراكي، فبدلاً من أن تواجه هذه (الشريحة اليسارية ومن دعاة الماركسية) تداعيات العقبة الكأداء لأزمة تلك (المرحلة التاريخية)، وبدلاً من التمسك بـ (الماركسية الحقيقية) والحفاظ على أمانة انتماءاتها الأيديولوجية، والسعي إلى تجديد الأساليب المنهجية وتطوير أطر المفاهيم التنظيمية، بثوابت المواقف المبدئية وعقلنة الواقعية السياسية، فإن هذه (الفئات اليسارية) سعت إلى حرق المراحل التاريخية بدعمها أجندة الخطاب الديني لتيار الإسلام السياسي من جهة، وقفزها من جهة أخرى على قانون المتناقضات وتشويه وحدة وصراع الأضداد.. ذلك بطابع المغامرة السياسية في الدروب المجهولة، وبمظاهر التبعية الذيلية في الدهاليز المظلمة، الأمر الذي أدى بهذه (الشريحة التحريفية الطفيلية) إلى فقدانها الرؤى الفكرية، وتوازناتها الأيديولوجية، وافتقارها إلى الاستراتيجية المنهجية والمبدئية، ومعاناتها مظاهر الشلل الفكري، بعدم قدرتها على وضع التمايز ما بين ما هو (مبدئي وما هو سياسي)، لتؤكد هذه (الشريحة المأزومة) في نهاية المطاف افتقادها الحصانة الفكرية والأيديولوجية، وافتقارها إلى الصيانة المنهجية والتنظيمية.
وفي ضوء ذلك توجت وهنها وهشاشتها بخروجها عن عالمها السابق المستنير وهو (عالم الوجود المادي) القائم على (المادية الجدلية والمادية التاريخية) ودخولها (عالم الوجود المثالي) القائم على (ميتافيزيقيا الغيبيات والثيوقراطية الطائفية والعصبيات المذهبية).
وعلى الصعيد ذاته يمكن القول: إنه حسبما أسلفنا الذكر أن هذه (الشريحة اليسارية ودعاة الماركسية) افتقدت الحصانة الفكرية والمناعة الأيديولوجية، فإن مواقف هذه (الشريحة ذاتها) قد أصابت الأحزاب الشيوعية والقوى الوطنية والتقدمية على طول الساحة العربية، بصدمة المفاجآت المؤلمة.. بعدما أخذت هذه (الفئة المهزومة) تجر أذيالها وراء قوى وتنظيمات تيار الإسلام السياسي بمرجعياته الدينية.. ويكفي استدلالاً بهذا الصدد، هو الموقف الذي أثار انتباه (الرأي العام العربي) في هذه الأيام لأحد رواد الفكر اليساري الذي تجلى بـ (الأمس) بتألق الحضور من الصولات والجولات بمختلف ميادين الفكر المتحرر وقضايا الرأي الحداثي والثقافة الحديثة والتحديثية والانتماء الوطني والفكري والأيديولوجي المستنير.. إنه المثقف «الماوي الاتجاه والانتماء» والكاتب اللبناني المعروف (فواز طرابلسي) الذي سعى ويسعى (اليوم) إلى قلب (ظهر المجن) بعدما تحول من أقصى اليسار إلى دعم اليمين المتشدد، ذلك بارتهان فكره بحراك وفعاليات تيار الإسلام السياسي.. وبالتالي إخضاع صاحب هذا «الفكر اليساري» بمحض إرادته تحت طائلة أجندة الخطاب الديني، هو حينما حرص دوماً على اتخاذ (قناة المنار) الطائفية التابعة لـ (حزب الله اللبناني) والمرهون بالتحالف الاستراتيجي مع «حكم الملالي وولاية الفقيه في إيران) منبرا له، مجاملة لقيادات (الحزب) عبر استضافته على شاشتها ومواظبته على الحضور ما بين أروقة استديوهاتها.
إنه من الأهمية بمكان القول: إن الموقف الترجيحي والانتقائي والهلامي والبراجماتي للمثقف اللبناني (فواز طرابلسي) لا يمثل سوى أنموذج من النماذج اليسارية المغامرة ودعاة الماركسية الطفيلية على طول الساحة العربية، التي افتقدت الحصانة الفكرية والمبدئية والأيديولوجية، لتتهاوى في براثن وكمائن تيار الإسلام السياسي بفتاوى «مرجعياته الدينية» و«بوصايا مرشديه الحزبية».
وحسبما عجزت هذه الفئات المأزومة (التحريفية والترجيحية والطفيلية) عن بناء المراحل التاريخية لمجتمعاتها العربية، أو السعي إلى نضج ظروفها الموضوعية والذاتية وتطويرها، ومحاولة النهوض بهذه (المراحل التاريخية) المثقلة الأوزار تحت وطأة مظاهر الدكتاتورية والأوتوقراطية، وتحت طائلة الاستبداد الديني، وخاصة المد الإسلامي الأصولي على طول الساحة العربية.. فإن الشاعر العربي (عمر أبوريشة) قد أصاب كبد الحقيقة بذات السياق حينما أبدع بيتا من الشعر لإحدى قصائده، يقول فيه:
أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنم!