الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

فن الأسطورة ووحدة اليابان

تاريخ النشر : السبت ١٩ مايو ٢٠١٢



تصف المؤرخة البريطانية كارن ارمسترونج الأسطورة بأنها نوع من الفن الذي ينظر الإنسان من خلاله لما وراء حوادث التاريخ ودراسته. وقد كانت خبرة السمو لما وراء الواقع المادي رغبة ونشوة إنسانيتين دائمتين، كما يرفع الإيمان الديني الإنسان لهذا السمو النفسي المترافق بنشوة روحانية تطير بالإنسان لما وراء واقعه الحياتي، وحينما فقد البعض نشوة الإيمان في واقعه المادي توجهوا للإحساس به من خلال الأدب والشعر والموسيقى والرياضة، والأسطورة هي كالقصة والأوبرا والباليه، تصور يمجد عالمنا المنقسم والمأساوي، ويساعدنا على أن نتأمل احتمالات وتساؤلات جديدة، وقد يؤدي لاكتشافات علمية وتكنولوجية مهمة، فالاسطورة هي حقيقة ليس لان وقائعها حقيقية بل لأنها مؤثرة في إعطائنا العمق للنظر للواقع المادي والاستلهام للإبداع لبناء مستقبل أفضل، والاسطورة هي دليل يوجهنا للتعامل مع الحياة بتناغم وغنى روحيين جميلين، كما تساعدنا على اكتشاف خبايا العقل الإنساني الذي لا يمكن إدراكه وهي بداية لعلم النفس، فقصص الأبطال والإلهة الموجودة ما وراء عالمنا التي تحارب الجن والأشباح أبرزت خفايا سيكولوجية الإنسان وعلمتنا كيف نتعامل مع أزمات الإنسان النفسية الداخلية.
وقد لعب فن الاسطورة دورا مهما في المجتمع الياباني وربط الشعب الياباني بدولته وإمبراطوره الذي تحول مع الزمن لرمز مقدس لوحدة البلاد، فقد صدر في عام 1715 كتاب لكاهن «ديانة» الشنتو اليابانية، ماسوهو زانكو، بعنوان «المرأة المتكاملة لعملية الجنس»، يقول الكاتب فيه: «التفاعل الجنسي بين المرأة والرجل هو جزء من تناغم الأنوثة والذكورة وهو طاقة الكون الأساسية الدائمة فالرجل والمرأة يشكلان قطعتين متطابقتين لا تفرق بينهما الدرجات». ويؤكد الكتاب قدسية الجنس في ديانة الشنتو، وتمثل عملية الجنس في الأسطورة اليابانية بداية الخليقة بتزاوج إلهي اليابان ازنامي وازناجي. وتعتبر عملية التزاوج الجنسي هي نوع من الاحتفال ببداية أصل اليابان المقدسة، وقد وصفت حكاية الكوجيكي تفاصيل هذه الاسطورة اليابانية، ويعتبر هذا الكتاب من احد أقدم الكتب التاريخية اليابانية الموجودة اليوم ويعطي صورة مفصلة عن بدء تاريخ اليابان، كما يجمع التاريخ مع الاسطورة ويسجل صورة لبلاد اليابان القديمة ومعتقداتها منذ عام 660 ما قبل الميلاد، وقد كتبه السيد ياسومارو على لسان الرجل ذي الذاكرة الفذة السيد هيدا نوار، وقدم للديوان الامبراطوري في عام 712، ويحترم الشعب الياباني هذه القصص والأساطير، كما أن آلهة هذه الأساطير لها معابد يزورها الشعب الياباني بانتظام للتبرك والدعاء، فهناك ثمانون ألف معبد للشنتو، فمثلا معبد الهة الشمس يزوره نحو ستة ملايين مواطن ياباني سنويا.
وتصف قصة الكوجيكي بدء الخليقة بانشطار كتلة جرمية فصلت السماوات عن الأرض وخلقت بينهما أوائل آلهة اليابان. ويبدأ الكتاب بوصف أسطورة ولادة ثلاثة من آلهة السماوات العليا وهم: إله السماوات والمخلف لالهة الإعجاز والمولد لالهة الاعجاز، ومن الجدير بالذكر أن الأسطورة اليابانية لم تحدد جنس هذه الآلهة. بعدها برزت من الارض نبتة صغيرة تشكلت منها آلهة أمير الأرض والزرع وآلهة الجنة والخلود. ويعتقد شعب اليابان من خلال عقيدة الشنتو أن روح الإنسان لا تموت بل تبقى أبدية تحوم حولنا في البيوت والجبال والأنهار والمعابد. كما أن بعض هذه الأرواح تتحول إلى آلهة الكامي، كإمبراطور عهد الميجي، الذي حول البلاد إلى قوة اقتصادية مصنعة.
ويصف الكتاب أسطورة ولادة سبعة من الآلهة المختصين بالأرض وهم: آلهة الأرض الخالدة والخصبة وطين الأرض والسيدات والنطفة والحياة وسيدة المكان العظيم والتكامل الخارجي وسيدة الرعب، وتلتها ولادة اله الذكر المضيف ازناجي والأخت الصغيرة الهة الأنثى المضيفة ازنامي. وتبين الأسطورة في فصلها الثالث كيف اجتمعت آلهة السماوات وأمروا الإلهين ازناجي وأزنامي بتزاوجهما لولادة ارض اليابان. وقد قدمت لهم الآلهة السهم السماوي المليء بالمجوهرات، فقاما بدفع السهم وتدويره في ماء المحيط المالح وهما يطوفان على الجسر السماوي مما ادى لتبلور الملح تدريجيا وترسبه وتحوله إلى جزر اليابان.
وتستمر أزنامي بتكملة ولادة باقي آلهة الطبيعة مثل آلهة الجبال والأنهار والغابات والأمواج. ويصف الكتاب كيف احترقت الاجهزة التناسلية للإلهة أزنامي بعد ان ولدت إلهة النار فمرضت واستلقت لتستريح وحينها بدأ مرضها المزمن، وحينها بدأ الكتاب وصف كل عرض، وربطه بولادة احد الآلهة. فمثلا حينما تتقيأ أزنامي يولد من قيئها إلها امير وأميرة معادن الجبال. وبعد فترة من مرض أزنامي اقترب ازناجي منها وبدأ يبكي فتحولت دموعه إلى آلهة أنثى الدموع الباكية، وقد اشتد مرض أزنامي وماتت فدفنها أزناجي على قمة جبل هيبا.
ونلاحظ أن الأسطورة اليابانية حاولت أن تؤكد أهمية كل ظواهر الطبيعة ومنتجاتها، حتى المرض وأعراضه وافرازاته مهمة ومؤثرة في البيئة والطبيعة. كما أن لكل شيء أهمية متضادة فالنار مهمة للحياة ولكن قد تكون مدمرة، والشمس أساس الحياة ولكن قد تكون سببا لجفاف وحرق الغابات. فتلاحظ مثلا في معبد إلهة الشمس أن هناك معبدا صغيرا مقابلا لمعبد الشمس العظيم ويمثل ذلك المعبد الصغير غضب إلهة الشمس. وتعتبر المعابد المكان الذي تتردد فيه الآلهة ومن الضروري أن تقدم للآلهة الأكل ثلاث مرات يوميا، ويشترط أن يجهز الأكل باستعمال نار ناتجة من احتكاك قطعتين من الخشب فقط، كما يوجد بالمعابد مسرح تعزف به الموسيقى ويمثل فيه بعض مسرحيات فن النوه القديم وذلك لتسلية الآلهة ومنع غضبها، فيترافق غضب الآلهة بالزلازل والفيضانات والطوفان وحرق الغابات.
وتستمر القصة بوصف قيام ازناجي بقطع رأس طفلة آلهة النار، ليولد من الدم الذي لوث سيفه مجموعة من الآلهة المفلقة للصخور، كما ولد من الدم الذي لوث الجزء العلوي من السيف آلهة القبح، وولد من الرأس المقطوع الآلهة المالكة لمعابر الجبال الحقيقي، ومن الصدر الآلهة المالكة لمنحدر الجبال، ومن البطن الآلهة المالكة للجزء الداخلي من الجبال، ومن اجزائه التناسلية الآلهة المالكة للجبال القاتمة، ومن اليد اليسرى آلهة الجبال المليئة بـ «الأخشاب» والغابات، ومن اليد اليمنى الآلهة المالكة للجبال، ومن القدم اليسرى الآلهة المالكة للجزء الخارجي من الجبال. وتستمر القصة بوصف أسطورة عالم الموتى، بعد أن زار ازناجي زوجته المتوفاة ازنامي، فتخرج من القصر وتتساءل عن سبب مجيئه، فرد عليها بأنه اشتاق لها ويريد أن يأخذها معه فترفض، فيرجع ازناجي خائبا وحيدا من عالم الأموات. وتستمر الأسطورة بوصف ولادة بقية آلهة اليابان التي تقدر بأكثر من ستة ملايين، ومن أهم بنات الالهين أزنامي وازناجي هي إلهة الشمس، التي تعتبر أهم وأعلى الآلهة مرتبة، والتي كان أحد أحفادها الامبراطور جيمو، أول أباطرة اليابان، قبل الفين وستمائة وسبع وستين سنة، وتستمر هنا القصة بوصف بدء ولادة العائلة الامبراطورية اليابانية وسرد تاريخ حياتهم حتى القرن الخامس.
تلاحظ عزيزي القارئ أن مفهوم الجنس مقدس في عقيدة الشنتو اليابانية، وهناك تشبيهات مقدسة لموضوع الجنس والإنجاب، فمثلا تعتبر الأرض كالأنثى، وزرع الأرض كعملية جنسية يبذر في الأرض نطفة البذور، وكان الفلاح الياباني يحتفل في مواعيد زرع الأرض باحتفال تواصل جنسي مع زوجته فيغتسل لتطهير النفس في البحر ويختار عادة نقطة التقاء النهر بالبحر. ويمثل البحر المرأة والنهر الرجل، فيتم التقاء التواصل الجنسي بين الرجل والمرأة فيصب نطفة النهر في رحم البحر.
كما أن موضوع الجنس له مفهوم روحاني كبير في القيم والتقاليد اليابانية، والتصق هذا المفهوم بالسلوك الذهني الياباني على مر العصور، وتعاملت التجربة اليابانية بحرية مع موضوع الجنس واعتبرته أحد الحاجات الطبيعية للإنسان مع مراعاة قيود مجتمعية تقليدية ملزمة للجميع، ويتعرض الشباب الياباني لمفهوم الجنس في وقت مبكر ومع ذلك من النادر جدا أن تجد امرأة حاملا وغير متزوجة. فالشعب الياباني محافظ على مفهوم العيب والحياء، ويتعامل مع موضوع الجنس بمسؤولية مجتمعية منضبطة، كما أعطى المجتمع الياباني المرأة الحرية الكاملة في قرارها في موضوع الزواج والإنجاب. فالكثير من اليابانيات يفضلن العمل على الزواج، واذا قررت احداهن الزواج تتأكد ألا تتضارب مسؤولياتها الزوجية مع العمل، ويفضل الكثير من النساء ترك العمل في مرحلة الإنجاب. وينظر المجتمع الياباني للمرأة المتزوجة وغير المتزوجة والمنجبة وغير المنجبة للأطفال بشكل متساو وطبيعي جدا، مما يجنب النساء اليابانيات الضغوط المجتمعية التي تتعرض لها المرأة في مجتمعاتنا العربية.
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان