الثقافي
الموتُ أقصرُ رحلةٍ للوأد
مذكراتُ الحلم في (درسِ السعادة) للقاص محمد عبدالملك (1- 3)
تاريخ النشر : السبت ١٩ مايو ٢٠١٢
لا يخفى على أي متتبع لعالم السرد القصصي معرفة أن القصة تلجأ إلى عملية السرد، والقص، والحكي لوقائع، وأحداث، وشخصيات، وذكريات قد تكون من الواقع، وقد تكون من الخيال، وقد يكون المزج بينهما، ولكن لكي تخرج هذه الكتابات السردية القصصية، أو الروائية إلى حيز الوجود، والفضاء المرئي، لابد من أن تكون هناك محفزات تمارس سلطتها، وسطوتها الثقافيتين، والأدبيتين، من خلال دافع يستفز الكاتب لكي يقول شيئاً ما، أو يكتب عن حالة ما، وعبر معطيات، وأنساق تثير شهية المتلقي المتطلع إلى معرفة تلك القيم المضمونية، والفنية في العمل الذي بين يديه، ويسعى إلى أن يكوّن معه علاقة مبدئية لتتحول فيما بعد إلى علاقة معرفية متينة، وكلما كانت القصة تقترب من الواقعية أو تحاول المساس منها، أو محاولة التوكؤ على بعض الأحداث التاريخية، أو الاجتماعية، أو أي مرتكز خارج من الواقع المعيش، هو الشيء الذي يهم المتلقي لما له من أثر إيجابي عند المتلقي، وخاصة إذا استطاع كاتب الأثر القيام بدوره الإبداعي في نسج العمل وإخراجه إلى الوجود بشكل يحفز القارئ إلى القراءة، وهذا ما حاول الكاتب محمد عبدالملك أن يقدمه في مجموعته القصصية (درس السعادة) الصادرة في 2005، منطلقًا كما نعتقد من أن الكتابة السردية هي «صياغة تعبيرية نسقية لمجموعة من المضامين تحدد رؤية الكاتب، وتتشكل في ثلاثة عناصر أساسية متمثلة في الأحداث ضمن حركية النص الزمنية، والمكانية، والشخصيات، بوصفها نماذج اجتماعية، وقيمًا، ومدى توزيع المرجعيات الفكرية أو الأخلاقية أو الفلسفية».(1)
وقد ضمت مجموعة (درس السعادة) اثنتي عشرة قصة قصيرة، سعت كلها إلى طرح بعض القضايا التي يعانيها الإنسان في خضم التناقضات المعيشية لواقع اجتماعي، إذ أمست هذه القضايا في المجموعة علامات واضحة وجلية تشير إلى معاناة الإنسان بصورة عامة عبر عدة محطات تتكالب على المرء جرّاء تعقد الحياة وتعكر صفو العيش، لذلك راح البعض يهرب إلى علاج الحالة بالهروب ذاته، بمعنى يحاول الاختفاء وراء التجلي الذي يظهر من خلال الاختفاء. وعبر العلاقات النصية تأخذك المجموعة في استغراق جميل وملامسة لخيال لغة تنبري لذات المتلقي لتبيّن أنها قصص تندرج تحت علاقتين أساسيتين مع الرجل، والذات الذكورية المسيطرة المهتمة بمكونات البناء السردي، كأننا هنا نشير إلى «استراتيجية الكتابة التي تعني تكامل عنصرين اثنين: عنصر البنية الشكلية، وعنصر البنية الدلالية والرمزية»(2)، مثل: تلك الأصوات الإنسانية الذكورية، والأنثوية التي تعالت، وتمظهرت بين البنية الزمنية، والبنية المكانية، وهاتان العلاقتان هما: علاقة الرجل بالمرأة.
الصوت الطاغي
لقد كانت العلاقة بين الرجل والمرأة إبداعيا يشوبها نوع من الازدواجية حيناً، والتناقض حيناً آخر، والسيطرة حيناً ثالثاً، فالرجل العربي لديه الطموح، والتغيير، والتغني بالمستقبل في الوقت الذي لا يستطيع الخروج من انغماسه في الماضي، والموروث، وهنا تكمن الازدواجية عند الرجل الذي يقف حائراً بين الموروث الذي صاغ وكوّن ثقافة المجتمع، وبين الواقع المتجدد الذي راح يفرض نفسه، وهي الثقافة التي تعكسها طبيعة العلاقة التي كوّنها، ونسجها الإنسان مع ما حوله من ماديات، ومع من حوله من كائنات، في حين كانت الذات الأنثوية تلغى من خلال السلوك الذي يقوم به الرجل، «فذات الإنسان هي المسئولة عن ضبط رغباته، وتنسيقها في إشباع غرائزه، وإنجاز مـا تلـح بـه الدوافـع الموروثـة المختلفة، وتتجلى ذات الإنسان في حكمه على الأشياء، والأشخاص، والمواقف، وفي طبيعة علاقته بالواقع وكيفية إدراكه»(3)، حيث كانت في الوقت نفسه محاولات المرأة عبر الكتابة المتنوعة، ثم الانطلاق نحو الفعل الإبداعي ذات صبغة الغائية لذات الرجل؛ لأنها سعت إلى هدم ما بناه الرجل من نجاح فردي متنوع الميادين، والحقول في المجتمع مما جعل العلاقة بين السلطتين (سلطة المرأة وسلطة الرجل) غير مستقرتين في التعاطي مع بعضهما بعضًا، وهنا نتساءل أيهما يريد وضع القناع على وجه الآخر حتى لا يمنع مشاهد السلوك الممارس؟
كما نرى أيضاً الكثير من كتابات الكاتب الإبداعية مشحونة بسلطة ذكورية، وتقييد للمرأة التي وضعها بعض الكتابات في زاوية تتصف بالضعف والدونية، وساعد الرجل/الكاتب في هذه البنى الاجتماعية التي أوجدتها الثقافة السائدة في المجتمع، ثقافة الهيمنة الفحولية حتى غدت فيها المرأة ليست الخليجية فحسب، بل العربية أيضاً إلى فترات ليست ببعيدة تسير وفق الواقع الاجتماعي، ووفق متطلبات سلطة الرجل، لذلك تراها حبيسة المنزل، ومحاصرة بين الجدران، والغرف، والمطبخ، وبين الأطفال، والمسئوليات الروتينية، ولكن هل كان للمرأة دور في هذه المحاصرة؟ ألا تكون المرأة هي نفسها مساهمة بشكل مباشر في تحمل المسئولية مع الموروث الثقافي وسلطة المجتمع وسلطة الرجل؟ وفي الجانب الآخر نرى الكتّاب الذين لم يقفوا كثيراً مع كتابات المرأة، ساهموا بصورة غير مباشرة في جعل النظرة تجاه المرأة تأخذ منحى الاشتهاء والجسد، «ألم يقل جوبار: المرأة أحلى هدية خصّ الله بها الرجل؟ ألم يقل ماريشال: المرأة كتاب مفكك الأوراق، غلافه خير منه؟ فلا عجب إذا فضل الرجل قراءته ليلاً، ألم يقل سقراط: المرأة مصدر كل شر؟».(4) وقد طرح محمد عبدالملك العلاقة بين المرأة والرجل وفق هذه الثقافة السائدة في المجتمع وعبر مخزون الرجل التراثي والثقافي.
أولاً: علاقة الرجل بالمرأة
وضع الكاتب المرأة في دائرة مغلقة، وجعل الرجل يسبح في الفضاء حول محيطها منبريا للانقضاض داخل المحيط ، وفارداً عضلاته الجسدية والنفسية والمادية، مما وضع المرأة في حالة من المعاناة الشديدة المتعددة، وهذا انعكاس للواقع المعيش، حيث المرأة تعاني معاناة مجتمعة تكمن في علاقتها بالآخر (الرجل «الأب/ الزوج/ الأخ» والمرأة »الأم/ الأخت/ الضرة/ العمة» والذات والمجتمع)، وفي حرمانها المشاركة المجتمعية الإنتاجية اجتماعيا وسياسيا وثقافيا بالقدر الذي ننادي بأحقية حصولها على المكانة المتساوية مع الرجل، وهذه ليست محليا أو إقليميا، بل عربيا أيضا حيث المرأة تعاني أزمة هوية، وأزمة ارتباط مع الذات والآخر لأنها مرتبطة بالآخر ماديا واقتصاديا، وفي بعض الأحيان مرتبطة ثقافيا، أي أن الرجل هو من يفكر عنها، ويقرر بدلاً منها، ليس رضاءً وإنما سلطة؛ لأن الرجل هو السلطة الرمزية للقانون الاجتماعي والإداري، وهو صاحب الحق في تشكيل حياة المجتمع الصغير، وهو القدوة التي ستأخذها فيما بعد الأجيال(5).
وهناك أزمة قيد ضمن الأطر المكاني العام المحكوم بالعادات والتقاليد والأعراف التي قد تعوق حركة الزمن وتطوره عند المرأة في محيط تغيير الثقافة التي تسيدت ردحاً من الزمن ولاتزال في العديد من الدول العربية خاصة المناطق النائية، لذلك لم يستطع بعض النصوص الذكورية إنصاف المرأة من كل تلك التبعات المضطربة ذات العلاقة الوثيقة بالمرأة، وبمكونات المجتمع، مما زاد من اختناقها وحصارها في المكان والزمان والسلطة الثقافية المحكومة بأحادية الجانب، فبعض الكتابات التي تتناول المرأة هي في الأساس تسعى من دون وعي إلى وأد الأنثى بوصفها ذاتاً مرة، ووأد الأنثى بوصفها كاتبة مرة أخرى، وكما يتردد دائمًا عند بعض الكتاب تجاه ما تنجزه المرأة مقارنة بما ينجزه الرجل، في أن العالم هو محور الرجل، لذلك تلحظ قوة في البناء الفني، والذات هي محور المرأة لذلك تبرز جمالية العاطفة، أي أن النتاج النسوي يهتم بدغدغة المشاعر والعواطف، وهذا يؤكد الوعي الثقافي، والأدبي، والنقدي في المجتمع.
1- عثمان بن طالب، الخيال السردي وأسئلة الكتابة من القصة إلى الرواية في نماذج تونسية، منشورات دار الاتحاف، تونس، ط1، 2003، ص69-.70
2- عثمان بن طالب، الخيال السردي وأسئلة الكتابة من القصة إلى الرواية في نماذج تونسية، منشورات دار الاتحاف، تونس، ط1، 2003، ص.68
3- ماجد موريس إبراهيم، سيكولوجية القهر والإبداع، الفارابي، بيروت، ط1، 1999، ص26
4 -سيد صديق عبدالفتاح، روائع من أقوال الفلاسفة والعظماء في المرأة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط4، 1999، ص 25- 27 .
5- انظر: نورة القحطاني، الرجل في الرواية النسائية السعودية - الصورة والدلالة، دار القلم، دمشق، ط1، 2009، ص42-.43