قضايا و آراء
لماذا.. القرآن دستورنا؟
تاريخ النشر : الأحد ٢٠ مايو ٢٠١٢
سؤال تأخر طرحه، فقد كتبت عن القرآن دستور الإسلام، وكتبت عن السنة المشرفة المذكرة التفسيرية للقرآن، وكان من الواجب أن يسبقهما طرح هذا السؤال: لماذا القرآن دستورنا؟ ونجيب عنه، ولكن قدّر الله تعالى وما شاء فعل.
وقبل الإجابة عن السؤال المطروح: لماذا القرآن دستورنا؟ دعونا نبين أولاً ماهية الدستور الذي نتحدث عنه حتى نرى أيصح أن نطلق على القرآن العظيم وهو معجزة الإسلام الخالدة، والكتاب الوحيد الذي حفظه الله تعالى من كل ما شاب غيره من الكتب السماوية التي لم يحافظ عليها أهلها، فحرفوا وبدلوا فيها، هل يصح أن نقول عن القرآن تجاوزاً انه دستور أم لا؟
الدستور )noitutitsnoc( هو: القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أو مركبة) ونظام الحكم (ملكيا أم جمهوريا) وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية) وينظم السلطات العامّة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لها تجاه السلطة (موسوعة ويكيبيديا).
هذا التحديد لمفهوم الدستور في الحضارة الغربية، وما يشير إليه من أنه القانون الأعلى الذي لا تجوز مخالفته، وأن جميع القوانين تخضع له وتصدر عنه، هل له وجود في الحضارة الإسلامية التي حكمت العالم ما يزيد على ألف سنة؟ وهل نستطيع أن نعتبر القرآن هو القانون الأعلى، بل نستطيع أن نقول عنه: إنه ليس أبوالقوانين، بل هو أبوالدساتير من دون منازع؟
نقول: إن القرآن الكريم وبناء على التعريف الذي ذكرناه هو دستور الأمة الإسلامية حتى لو لم تعترف بذلك الكثير من الأنظمة العربية، فهو دستور الأمة تصدر في حياتها عن أمره ونهيه، فلا تحل إلا ما أحل، ولا تحرم إلا ما حرم، ولا تعبد الله تعالى إلا بما شرّع.
القرآن بهذا المعنى نحن نؤمن ونعتقد أنه ليس دستوراً كباقي الدساتير، بل هو أبوالدساتير جميعها اعترفت الأنظمة المهيمنة على مصائر الشعوب الإسلامية أو لم تعترف، وسواء اعترفت الحضارة الغربية بذلك أو لم تعترف، فلا شأن لنا بهم، بل نحن أدرى بما يصلح شؤوننا، ويشفي صدورنا، ويحقق لنا السعادة في الدنيا والنجاة يوم القيامة، والسبب الذي يحملنا على قول ذلك بسيط وعظيم في الوقت نفسه، بسيط لأن بإمكان أي إنسان يملك عقلاً راجحاً متدبراً أن يعرف هذه الحقيقة، وعظيم لأن ما يحققه هذا الدستور، وما ينظم من علاقات، يفوق كل دساتير العالم، وكل ما يفرزه العقل الإنساني في قمة ترقيه، لأنه تشريع إلهي، وضعه العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أما عن السبب الأول في أنه بسيط، فنجده في قوله سبحانه: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا» (الإسراء/9).
وأما عن السبب الثاني في أنه عظيم، فهو أن هذا الدستور الإلهي العظيم لا يكتفي بتحديد شكل الدولة، والقوانين التي تنظم عملها، والسلطات الثلاث التي يقوم عليها بناء الدولة، بل هو يتجاوز ذلك كله بأن ينظم العلاقة أولاً بين الإنسان وخالقه سبحانه، ويبين حقوق الخالق على عباده، وما للعباد عند خالقهم من حقوق، ثم هو ينظم العلاقة بين الإنسان وذاته، ويحدد ما له وما عليه من واجبات وما له من حقوق حتى مع ذاته، قال سلمان الفارسي لأخيه أبي الدرداء: «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فاعط كل ذي حق حقه» فأتى أبوالدرداء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان (رواه البخاري).
والإنسان مسئول عن جوارحه التي سوف تشهد عليه يوم القيامة حين يعيد إليها الحق تبارك وتعالى إرادتها، فتشهد على صاحبها بما ارتكبه بها من معاصٍ، وما اقترفته من آثام: «يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون» (النور/24).
في ذلك اليوم يواجه الإنسان الحقيقة في أنه كان مسؤولاً عن جوارحه، وأنه لم يحسن رعايتها، وصيانتها من الوقوع في المعاصي، وان أمرها في الدنيا كان موكولاً إليه، فلم يُحكِم القرآن وشرائعه في سياسة شؤونه، وإدارة ذاته.
وهو أيضا (أي القرآن) ينظم العلاقة بين الإنسان بأوسع وأشمل معانيها وبين المخلوقات الأخرى من: جماد ونبات وحيوان، وأن هناك حقوقاً لهؤلاء جميعاً في عنق الإنسان ذكرها القرآن في إجمال، وتولت السنة الشريفة امر تفصيلها، ومنها ان امرأة دخلت النار في هرة، وان الله تعالى غفر لبغي لأنها سقت كلباً كاد أن يأكل الثرى من العطش، وأن رجلاً نحى شوكاً عن طريق المسلمين، فشكر الله تعالى له، وغفر له.
إذاً، فالمسلمون كغيرهم من الأمم يحتاجون إلى دستور ينظم حياتهم، ويحدد مسؤولياتهم، وما عليهم من حقوق تجاه خالقهم سبحانه، وتجاه أنفسهم، وأهليهم، وتجاه أمتهم، وتجاه من حولهم من الأمم، ولأن المسلمين آمنوا بالله ربا لا شريك له، وأنه إله واحد لا ند له، وأنه هو المشرع الذي لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو سبحانه وحده المستحق للطاعة فيما يأمر وينهى بمقتضى عقد الإيمان الذي بيننا وبينه سبحانه وتعالى، فلابد أن يكون مصدر دستور المسلمين ليس من البشر، ولكن من رب البشر، وأن القاعدة التي تُبنى عليها حياة المسلمين ليست هي: الخطأ والصواب، وهما من تقدير البشر، بل القاعدة التي تقوم عليها حياة المسلم هي: الحلال والحرام، وهي من وضع العليم الخبير سبحانه وتعالى.
فلا تمتد يد الإنسان إلى مطلق طعام، بل لابد من أن يكون هذا الطعام حلالا في ذاته، وحلالا في الوسيلة التي جاء بها، أي ألا يكون مما حرم الله تعالى أكله: كالخنزير والميتة والمتردية والنطيحة، وما شابهها، وألا تكون وسيلته التي جاء بها مالا مسروقا.
وحرام على المسلم أن يقيم أي علاقة مع مطلق امرأة، فهذا مما لا يبيحه الإسلام، بل لابد أن يكون طريق هذه العلاقة مشروعا وهو الزواج الذي أحله الله تعالى، كما لا يجوز له أن ينسب أي طفل إليه، بل لابد أن يكون هذا الطفل ثمرة علاقة شرعية.
وكسب المال له طرائقه الشرعية التي لا يقر الإسلام غيرها، فإذا انحرف المسلم عن ذلك استوجب العقوبة المقررة شرعا على هذه المخالفة.
والتركة بعد وفاة المسلم توزع بأمر الله تعالى، ولا يجوز للمسلم أن يوصي من تركته بأكثر من الثلث، كما أنه لا يجوز له أن يعطي الورثة أكثر من نصيبهم المقرر شرعاً، فلا تصح الوصية لوارث، اما ان يتصرف المسلم في ماله كأنه صاحب المال الأصيل، فيعطي هذا ويمنع هذا من الورثة حسب مزاجه الشخصي، فهذا لا يجوز في دين الإسلام، فصاحب المال هو الله تعالى، وإليه يعود المال بعد وفاة مالكه( الوكيل).
والحاكم في الإسلام مسموع الكلمة في المعروف، فإذا أمر بمعصية أو نهى عن طاعة، فلا سمع له ولا طاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (رواه ابن عبدالبر في الاستيعاب، ص3/26).
إذاً، فدستور الإسلام العظيم لا يشبهه أي دستور، فالعلاقات فيه مصون بين الخالق والمخلوق، وهي فيما بين المخلوقين كذلك، وفي هذا من الشمولية والاستيعاب ما لا يتحقق في أي دستور من دساتير العالم، ولأن عقيدة المسلمين تلزمهم بطاعة مولاهم وخالقهم عز وجل، فهم مأمورون باتباع القرآن العظيم، وتحكيمه في حياتهم لأنه يهدي للتي هي أقوم في كل صغيرة وكبيرة من شئون دينهم ودنياهم، لهذا كان القرآن، وسيظل، دستورنا نحن المسلمين رضي الحكام بذلك أم أبوا، وقبل الغرب بذلك أم لم يقبل، فلا شأن لهم بنا، ولا شأن لنا بهم، فنحن مسلمون، وسنظل كذلك حتى نلقى الله تعالى على ذلك.