قضايا و آراء
من مفكرة سفير عربي في اليابان
اليابان والدين
تاريخ النشر : السبت ٢٦ مايو ٢٠١٢
ينفي 85% من الشعب الياباني اعتقاده بالأديان، ولكن هناك تعبيرا يابانيا يعبر عن حقيقة الدين في اليابان، وهو عبارة ((شنبوتسو شوجو))، تعبير يدمج ديانة الشنتو بالديانة البوذية، ويرجع ذلك التعبير إلى القرن السابع عشر، بعد ان انتقلت اليابان لعصر الايدو، بتجنبها الصراعات الدموية الدينية والطائفية، وتوجهها لتوحيد البلاد بثقافة تعليمية متقدمة، وقد فصلت البوذية عن الشنتو رسميا بقانون في عام .1886 ويؤكد اليوم، علنا، 15 من اليابانيين أنهم يعتقدون بديانة الشنتو أو البوذية. ويؤكد الدستور الياباني حرية اعتناق الأديان، وهناك قلة من المسيحيين واليهود والمسلمين والهندوس، ولكن تبين الإحصائيات اليابانية أن 90% من الشعب الياباني مرتبط ((نفسيا)) بديانة الشنتو أو البوذية بالرغم من نفيهم الايمان بالاديان.
وتعتبر ديانة الشنتو من أقدم الديانات في اليابان، بينما دخلت البوذية من الصين، ومن خلال كوريا، إلى اليابان في القرن السادس الميلادي، وقد علق البروفيسور هاورو ساكوراي، أستاذ العلوم الدينية بجامعة كوجاكان اليابانية، عن ديانة الشنتو قائلا (الشنتو هو احساس عاطفي لا تفكير ماديا، يسمو بالإنسان ويدعم أخلاقياته ويهذب سلوكه. فهو نوع من الايمان، والإيمان مرتبط بالشعور، والشعور مرتبط بالإحساس، ولو دخل التفكير الذهني في الوسط لتلف هذا الإحساس الايماني الجميل). وباختصار يفصل الشعب الياباني الواقع المادي الحياتي ومنطق التفكير الذهني، عن الدين والإحساس بالإيمان والسمو من خلاله. ففي ديانة الشنتو اليابانية يمكن أن تسمو بهذا الإحساس لمرتبة الإله ومن خلال خدمة الوطن. ومن المعروف في تاريخ اليابان إمبراطور عهد الميجي الذي لعب دورا في تحول اليابان إلى بلاد عصرية متطورة صناعيا، فاعتبر بعد مماته من أحد الالهة تقديرا لجهوده، وبني له معبد من أشهر وأجمل معابد اليابان، ويزوره سنويا الملايين من اليابانيين للتبرك والاحترام.
ومع أن ديانة الشنتو لا تحدد رسولا لرسالتها وليس لها كتاب مقدس، لكنها مستمرة، عبر مئات السنين، الديانة الموحدة للشعب الياباني، ويرجع تاريخها المكتوب لعام الفين وستمائة وسبعة وستين قبل الميلاد، كما كان قاطنو هذه الجزر يمارسونها قبل هذه الفترة بشكل بدائي. وقد أخذ الشعب الياباني من الحضارة الصينية والديانة البوذية الكثير وطور بهما معتقداته، كما دمج الديانتين في الممارسة الدينية وعقائدها. فالشعب الياباني مرتبط بالشنتو في كل ما له علاقة بالحياة والنمو والتطور، ومرتبط بالبوذية في كل ما له علاقة بالموت وما بعد الحياة.
ويعتمد الشعب الياباني على كتابين أساسيين حينما يناقش تاريخ اليابان القديم وديانة الشنتو، وهما كتاب الكوجيكي والنهون شوكي. وقد عرضنا في الحلقة السابقة بعض بنود كتاب الكوجيكي، ولنحاول عزيزي القارئ تفحص كتاب النهون شوكي ونتدارسه لنتفهم الكثير عن تاريخ وديانة شعب اليابان.
لقد جمع أجزاء هذا الكتاب بتشجيع من البلاط الإمبراطوري الياباني، واعتمد على الوثائق المحفوظة في هذا البلاط. ويشرح الكتاب تاريخ اليابان وكيف بدأت الحياة فيها، ويصف ولادة الجزر والآلهة والعائلة الإمبراطورية والشعب الياباني، وقد أكد المعلق على هذا الكتاب السيد كونن شيكي أن كتاب النهون شوكي قد جمعه الأمير تونيري، والكاتب يوسومارو فوتو نو اسون، وقدم للإمبراطورة جيميو في عام سبعمائة وعشرين.
ويدرس هذا الكتاب تاريخ اليابان وديانة الشنتو منذ القدم حتى عام ستمائة وسبعة وتسعين، ويعرض الكثير من المفاهيم من خلال أساطير يكررها الشعب الياباني ويستفيد من الحكمة من وراء حوادثها، ويغطي الكتاب بالأخص تاريخ فترة الاسوكا (552-645) وهي الفترة التي تعرضت اليابان للتأثر بالحضارة الصينية والديانة البوذية. وقد كانت هذه الفترة، فترة تطور الثقافة الأدبية والدينية، كما تطور الفن والإبداع. واللافت للنظر أن هذا الكاتب يعرض الحوادث التاريخية بصيغ مختلفة حسب المراجع المستقاة منها، ويسمح للقارئ بأن يقرر الصياغة القريبة من الواقع في ذهنه وبدون وصاية، وقد يكون ذلك أسلوبا مهما لدى الشعب الياباني في التعامل مع التاريخ والدين، فلا توجد فكرة مفروضة على الشخص، بل تصورات يتعلمها ويشعر ويؤمن بها حسب شخصه وبدون قسر أو عنف، بل بتناغم جميل، فلذلك استطاعت ديانة الشنتو أن تدخل في ضمير الشعب الياباني وفي أخلاقيات سلوكه منذ نشأة اليابان. حتى موضوع الموت والآخرة تتعامل معه ديانة الشنتو بسلاسة، فتخلد الروح بعد الموت، وتحوم حول البشر، وترتفع للسماء لتدور حول الغابات والأشجار والأنهار. وإذا عمل الشخص خيرا لمجتمعه، فقد ترتفع روحه بعد الوفاة لدرجة الآلهة، ليصبح إلها تبنى له المعابد لتحوم روحه فيها. ومن التقاليد اليابانية أن يوجد في البيت معبد صغير بحجم صندوق متوسط الحجم وبه مرآة معدنية لتعكس روح الميت، كما تزور الآلهة هذه المعابد الصغيرة. ولا تناقش ديانة الشنتو مصير الخطائين في حياتهم كثيرا، فلا توجد فيها نار للآخرة، كما لم يكتب إلا القليل المبهم عما سيحدث للمخطئ بعد الممات. فتركز ديانة الشنتو في التحدث عن نتيجة العمل الطيب في الدنيا، فمن يقم بعمل طيب يمت موتة هنيئة، وتحُم روحه بين جمال الطبيعة، وقد تنتقل لمخلوق حسب طيب العمل في الدنيا، كما تشجع الناس على عمل الخير بدون الخوض العميق فيما سيحدث حين يخطئون.
وقد بوب هذا الكتاب في ستة عشر فصلا، ويتحدث الفصلان الأول والثاني عن بداية ولادة الآلهة، بينما تركز باقي الفصول في تاريخ أباطرة اليابان، ويبدأ الكتاب بالحديث عن اول امبراطور ياباني وهو الإمبراطور جيمو فينو، ويستمر في الحديث حتى آخر الأباطرة وهي الإمبراطورة جيتو تينو، التي حكمت في عام أربعمائة وتسعة وتسعين ميلادي. ويصف الكتاب في الفصل الأول كتلة كونية هيولية، تشبه البيضة، وبحدود مبهمة، وتحتوي على مجموعة من النطف، فينسحب الجزء الشفاف والنقي بتأن ليتحول إلى السماوات، بينما يتحول الجزء الثقيل والكثيف إلى كتلة الأرض، ولتبدأ الآلهة التشكل فيما بينهما، وليصف الكتاب بالتفصيل كيفية ولادة الآلهة الواحد تلو الآخر، ومن أهم هذه الآلهة هما الازناجي والازنامي، وقد أمرت الإلهة بزواجهما، ليبدآ ولادة جزر اليابان وأباطرتها وشعبها، وقد ولدت الإلهة ازنامي ابنتها إلهة الشمس، التي هي الإلهة التي استمرت ترعى اليابان على مدى العصور، بينما اختفى والداها بعد ولادتها. وهناك معبد جميل، بمدينة ايسيه وفي وسط الغابة، لإلهة الشمس، التي لها تقدير كبير في اليابان، كما يختار الراهب المسئول عن هذا المعبد عادة من نساء العائلة الإمبراطورية.
ويبدأ الكتاب في الفصل الثالث الحديث عن أول أباطرة اليابان وهو الإمبراطور جيمو تنو (الإله المحارب)، وهو من أحفاد إلهة الشمس ((أمترا سو))، فقد كان الابن الرابع للإله هيكو ناجيسا، ووالدته ((تامايوري)) إلهة البحر، وكان ذكيا منذ ولادته، وقد توج إمبراطورا في الخامسة عشرة من عمره وتزوج من ((اهيرا تسو هيم))، وحينما بلغ الخامسة والعشرين من عمره خطب يقول ان الآلهة قد وهبت الأسلاف ارض اليابان الخصبة للزراعة الأرز، وان الالهة قد أنزلت الأسلاف على ارض اليابان قبل 1,792,470 عاما. كما سمح لكل مدينة بأن يكون بها لورد، وبكل قرية رئيس، وهما يقرران الحدود، ويدافعان عنها، ويتحملان مسئولية التعامل مع الأعداء.
ويؤكد الكتاب ((وجود أرض خصبة في الجزء الشرقي من البلاد محاطة بالجبال، وان هذه الأرض مناسبة لتنفيذ الأمر الالهي، لكي يملأ مجد الكون ولا شك أنها مركز الكون، وقد سافر نجي هايا هي إلى هناك ليحولها للعاصمة، وقد وافق الأمراء على ذلك))، وفي عام واحد وخمسين بالتاريخ الياباني، أي عام 667 قبل الميلاد، يؤكد الكتاب بدء العهد الإمبراطوري في اليابان في عام 667 قبل الميلاد نفسه. كما يصور الكاتب المعارك التي خاضها الامبراطور، وكيف قتل أخوه في احدى هذه المعارك، وقد توفي الإمبراطور وعمره مائة وسبعة وعشرون عاما في قصر كاشيها بارا في اليوم الثالث من الشهر الأول عام السادس والستين، بعد ما عين الأمير ((كامي نوناجاها ميمي)) خلفا له، ويوافق ذلك التاريخ عام 585 قبل الميلاد، ودفن في خريف السنة اللاحقة في اليوم الثاني عشر من الشهر التاسع في رابية ميساساجي في الجنوب الشرقي من جبل اونيبي.
وتلاحظ عزيزي القارئ أن هناك أخطاء بارزة في حساب التواريخ في الكثير من بنود الكتاب، ولنتذكر أن الكتابة اليابانية لم تتطور إلا في القرن الخامس، وأخذت الكثير من الكتابة الصينية.
ويستمر الكتاب في عرض تاريخ اليابان وأباطرتها، وينتهي الكتاب بالفصل الثلاثين بعرض تاريخ الإمبراطورة جيتو تينو، التي كانت محافظة السلوك ومتحررة الفكر، وتزوجت من الإمبراطور امي نو نانهارا، ورزقت بالأمير كوساكابي، وحكمت البلاد، كما اكتشفت خيانة الأمير اهوتسو فتم اعتقاله وحكم عليه بالموت، وقد رغبت زوجة الأمير أن ترافق زوجها في موته، وقد وقع جميع من حضر هذه الرغبة، وبعدها بكى الجميع. ويتحدث الكتاب بالتواريخ الدقيقة عن تفاصيل هذه الامبراطورة وحياتها، ويعطي فكرة جميلة عن واقع القصور الإمبراطورية. فمثلا في اليوم الأول من الشهر الثاني عشر صدر قرار إمبراطوري بأن يقنع الرهبان سنويا عشرة من الأشخاص باعتناق الديانة البوذية، وفي اليوم الثامن من الشهر الخامس أرسل وفد لمختلف المعابد للصلاة لنزول المطر، في اليوم الثاني من الشهر السادس عفت الإمبراطورة عن بعض المجرمين، وفي اليوم السادس صدر أمر إمبراطوري بقراءة السوترا البوذية في معابد المحافظات، وفي اليوم التاسع عشر وزعت العطايا على آلهة الأرض والسماوات، وفي اليوم السادس والعشرين بدا الوزراء ببناء مجسم لبوذا للدعاء لشفاء الإمبراطورة، وفي اليوم الأول من الشهر الثامن تنازلت الإمبراطورة عن العرش للأمير الإمبراطوري.
تلاحظ عزيزي القارئ أنه في عام 667 قبل الميلاد كانت هناك إمبراطورية متطورة في اليابان، وقد شرح كتاب النهون شوكي تفاصيل تلك الفترة. وحينما قابلت بعض الرهبان اليابانيين تحدثوا عن جميع قصص الآلهة كأنها أساطير، ولكن كان الشعب الياباني يعتقد في هذه الأساطير حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد هذه الحرب تعرض الشعب الياباني لصدمة عنيفة وشكك في تاريخه وتقاليده ودينه، ولكن مع الوقت درس تاريخه ودينه دراسة متفحصة. ومع أن الكثير من اليابانيين يؤكدون أنهم غير متدينين، ولكن تلاحظ أن الجميع يحترم تاريخه وعقائد دينه ويزور المعابد للدعاء، والجميل أن الشعب الياباني ربط قيم الدين بأخلاقيات السلوك وتقديس الوقت والشعور بواجب العمل، كما تغرس ديانة الشنتو التناغم بين الإنسان والطبيعة ومع أخيه الإنسان. وأتذكر حينما وصلت إلى اليابان علق أحد السفراء العرب في وصف اليابان بقوله: ((ستجد اسلاما بلا مسلمين)).
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان