الثقافي
الأرضُ تحت الأنقاضِ
مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (18)
تاريخ النشر : السبت ٢٦ مايو ٢٠١٢
الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلاً، والفوضى في كل مكان، والتعذيب شامل، وأسرته محطمة ويقاومه ويتداخل معه العراقي الضابط المُعذِّب المناضل عبدالجبار المختار
29
تذكرْ يا قيس واحفر! قَطّعْ اللحمَ الفاسد من جسدك المترهل مرضاً، قَطِّعْ ولا تخفْ!
يَحجزُ في هارون الرشيد. يستقبلهُ نفسُ الرفاقِ الذين عرفهم تلاميذً صغاراً يحفظون شعرَهُ ويراسلونه ويبدون إعجابهم به. يتطلعون إليه في السيارةِ المندفعةِ بسرعةٍ. الرقابُ تلتوي لتكلمهُ وهو في المقعدِ الخلفي. الوجوهُ التي التفتْ عليه في حاناتٍ باهرةٍ مطلةٍ على النهر وهو يتدفقُ في العتمة، تتشعلُ السجائرُ والقلوبُ والشعرُ، وتصدحُ بالفارسِ العربي، ترسمُ بالنجومِ خطواتِ حذائهِ المنغرزةِ في الأرضِ العربية، يصنعُ قادسيةً جديدة، ويحولُ الأنهارَ عن مساراتهِا المضنيةِ الرثةِ، ومستنقعاتهِا، ويقدمُ لها الترابَ العطشَ، ويجعلُ البحرَ حلواً والفلاحين ذكرى. الرفاقُ ذوو الوجوهِ النضرةِ يحدقون فيه بغرابة، عيونهُم كثيرةٌ بعددِ مسابيحِ الخرز التي ملأتْ أيديهم فجأة، بعددِ الشعرِ الذي نبتَ في لحاهِم، وغمغمَ؛ (أخاف ألا نذهب إلى حانة أبي نواس! يا جماعة فجأة صرتمْ كلكم مطاوعة!).ضحكوا بتوتر؛(لا يهمك يا رفيق فريدة جاهزة!)، (لكن لابد لك يا رفيق من زيارةٍ لمسجدِ الإمام الأعظم!)، يصيحُ؛ (بعد أم قبل فريدة؟!)، يضحكون، ويُخرجُ أحدُهم زجاجةً من جيبهِ ويسقيه، يهتزون جميعاً في نشيد واحد (في كل الأوقات!).
كان البردُ والمطرُ، ولم تعدْ ثمة زواريب ينهمرُ منها الشعرُ، والشاعران اللذان أحاطا به وراء الزجاج والقلق، يحتسيان الويسكي ويدخنان الغليون، يضعان النارَ في هذا الخشبِ الصلبِ، الولاعاتُ الفضيةُ ينغرزُ لهبُها في التبغ، ولم يعودا زائرين يطلبانهِ بتوترٍ من غرفتهِ في الفندق وينتظرانه في الأسفل، الدواوين التي يبعثانها ذات لغاتٍ غريبة، الآن هما موظفان كبيران، كان يَعرضُ عن تلك الأشعار، تلك الكلماتُ التي تضخُ أسماءَ آلهة تموز وعشتروت وبعل وتحلقُ بين الطين والعجينِ والصلصال وهو بعد الكاسات يهذي؛ (أهذا ما كنا نعملُ من أجلهِ؟ تموز القادم من تحت أطباق الثرى؟! الأرضُ كالحةٌ مصفرةٌ، والإلهُ غريب، النباتُ ماتَ والكونُ غريق، من بين الأشواك يهذي ويغني. أي كلامٍ غامضٍ هذا؟ كما أنه يتعارضُ مع الإسلام. الآلهةُ المتعددةُ. هذه الكوابيسُ الغريبةُ التي تبثانها. ومع هذا وثقَ بكما القائد. وصرتما مثقفِين للشعب!)، وكانا يطردان كلماتهِ مثلما يهفهفان الدخانَ، ويرقصانِ مع الغواني الأجنبياتِ، ويمتصان اللذةَ بولهٍ، من بين الخميرةِ والخمرةِ والرؤى المتداعيةِ والأحلامِ الشفافةِ الرقراقةِ، ومن بين السكراتِ كان يرى شبحين يتوغلان في أرضٍ محصودةٍ بالجماجم، يهتفون وطنٌ واحدٌ والحدودُ دبابيس صدئةٌ على الخرائط. كانت حقيبتهُ تمتلئُ بالكتبِ والورقِ والخطب، ويمضي محتضناً إياها في فلتهِ وزوجته تهمسُ كلما مرتْ بهِ؛(ألم يتعب كهلي الحبيب من هذا الورق؟!). يا للقوقعة الهادئة التي صنعتها مريم، ها هي راقدة قربه تصحو كل ساعة لتتأكد من بقاء لؤي لم يستشهد من عملية أو ينغرز فيه خنجر؟ أتعرفَ من أنا؟
يغفو.
أيعقلُ أن أُتركَ دون أي اهتمام. سوف أُدهسُ تحت هذا السقفِ الحجري المصغر، هذا المثلث المتقلقل.
لا! أنا في بيتي!سمعَ الشاعرين، وهو في دورة المياه، شاعرا الاستقبال والمهرجانات الكثيرة والنساء؛ (قيس هذا كهلٌ لا يعرفُ الشعرَ ولا العالم. نفايةٌ قديمة!). جثمَ على الحوضِ الصغيرِ قربَ بقعة البول، ولم يحركْ السيفون خجلاً من أن ينتبها إليه. أهذه هي مكانتهُ لديهما؟ (إن الشعرَ الذي يقولانه لا يحركُ حتى صخلةً، أين هو من شعرِ جيلنِا المدوي؟). أيهزآن به؟ بعد هذا العمر وهو الذي صححَ لهما الأخطاء النحوية والعروضية؟! لم يقابل أحداً مهماً في العاصمة. في كلِ مؤتمرٍ كان يُدعى. يرى جحافلَ من الوفود تنقضلا على البوفيهاتِ المفتوحةِ في كلِ وقتٍ، وتـُنهشُ المناسفُ المجلوبُ عليها نصفَ خرافِ الفراتِ، والباصاتُ تأخذُهم إلى الجبهة. طرقٌ وعرةٌ، وحفرٌ على مدى النظر، والقبورُ ملأتْ الرحبَ فأين القبورُ من عهد البكر؟ أطلالٌ وخرائب وكلُ الماعزِ الوحشي مرَّ من هنا، وكلُ الأكاسرةِ الذين نزلوا من جبالِ الشرقِ السوداء، وأمامهم الجيوشُ الجرارةُ في جلودِ الذئابِ والأسود وقرون الثيران، نهمين إلى النهرين الكبيرين وغابات النخي
لم يعملْ لمنصبٍ مثلهما، جثمَ في وظيفتهِ، في هذه الهيئةِ الكويتية الوطنية الغامضة التي تساعدُ الدولَ، وأصبحتْ مهمَّشة، وزالتْ فجأة، وهو أُحيل للتقاعد لكنه ظلَّ يداوم ويقترح وينتقد، كان فعلاً كما قالا نفايةً من عصرٍ قديم، لكنه أصرَّ على الحضور في المؤتمرات حتى ولو لم يُدع، وعلى إلقاء الشعر، وتنبيه الأمة للأخطارِ والأعداء من كلِ صوب، وكان داعيةً لسحقِ القملِ الأجنبي، لكن الأجيالَ الجديدة مهتزة، مبلبلة، سائحة. (يا إلهي أين ذهبت كلُ أصواتنا؟ كيف تحول خالد بن الوليد لديهم إلى شبح؟ فارس ضائع الملامح في الفلوات؟!)، وكانت القادسيةُ فرصاً ليدوي بكلماتهِ بينهم، في تلك الاحتفالات بين الجنود، بين بحيراتِ الدمِ والعظام، بين الخنادقِ التي امتلأت بالشهداء، فجّرَ الأشعارَ، استيقظَ الجنودُ على وهجٍ، وتدفقت أصواتهم.
الظلامُ ينتشرُ في الخارج. وثمة ضجةٌ رهيبةٌ بعيدة. أصواتُ انفجاراتٍ هائلة. الأحجارُ تتقلقل. ستحول بيته لأنقاض أخرى. سقطتْ علبٌ وأحدثتْ ضجة، ماءت قططٌ شرسةٌ تنمرت في الغزو. غبارٌ راحَ يتساقط فوقه. يتطلعُ بنصفِ عينٍ إلى سقفهِ الخاص القريب. هل سوف يسقطُ على رأسهِ في أي لحظة؟ لا يستطيع أن يتحرك. ثمة ومضاتٌ من الصورِ تتفجرُ في الغبشِ.
ثم يتلاشى كللا شيء. بياضٌ ناصعٌ على الشاشة، وهو يحاولُ أن يرفعَ ساقيه من المصيدة الحجرية الخيالية المستمرة، والوهج الذي في الذاكرة يخففُ الآلامَ الأرضية الوافرة الباقية كأنها حزبية.
في الفجر يشملا دائماً رائحةً قوية نفّاذة تتخللُ مسامَ رأسه. تنعشهُ وورقُ الجرائدِ يناوشه، وطلةُ المرأةِ قرب قلبه، كأنها تلامسهُ الآن، وكأنه يكاد أن يمسكَ شعرَها ويقبلُ الوجهَ ولكنه يهربُ منه إلى عناوينِ كتبٍ وراجماتِ صواريخ ومدفعية تهزّ الحدودَ وتنقضلا على البيوتِ الريفيةِ المسالمة، وتتطاير جثثُ الأولاد والفلاحين والحمام. الخنادقُ العراقيةُ والإيرانيةُ تصعدُ فوق مسرحِ عقله وهي تشتعلُ ويخرجُ منها رجالٌ على هيئة أقلام من نار وفحم. يتراكضون شظايا. انتصرنا، المجوس، الذباب!
الألمُ ينفجر. يكادُ يدمرُ جبينَه اللاصقَ على الأرض الأسمنتية، وينزلُ إلى عينيهِ سيخاً من لهب. يتوقفُ عن التفكير.
شيءٌ ما يتحرك. الرجلُ الميتُ الذي يواجههُ ينزعُ نظارتَهُ ويطالعه ويضحك!
ألم يسأل لماذا يموتُ بنظارة؟ هل كان يعتزم القراءة في العالم الآخر؟ هذه قصاصاتٌ من جرائد منتفة متناثرة بين حطام تتسرب في فراشه الوثير، ألم يقرأها؟!
الأصواتُ تتفاقم، والليلُ يتحولُ إلى نهارٍ من الأضواءِ الصناعية الكثيفة المنتشرة، الأرضُ تهتز والابنية المنهارة تتقلقل، الغبارُ يتسع، الآن سوف يسقطُ سقفهُ الخاصُ المثلث على هيئةِ قبرٍ ويدهسُ رأسَهُ، لا يقدر على سحب رجليه، يضعُ ساعديه على رأسه، زخةٌ من دمِ المبنى تنزلُ على هيئةِ سحابةٍ قاتمة. الأرضُ تتحرك، الخارجُ المحيطُ شوارعٌ أسفلتيةٌ صلبةٌ لكنها الآن ترتجلا. هذه أصواتُ دبابات، لا يمكن أن يراها، ولكن كلماتٍ مذهلةً قليلةً تصلهُ، إنها كلماتٌ عربية وباللهجةِ التي يحبها كثيراً؛ اللهجة العراقية!
تختلطُ صور الانهيارات!
تدافعُ الصدورُ لتحضنه، الشواربُ الضخمةُ، الوجوهُ ذاتُ الهيئاتِ المليئةِ بالشحم، العريضةُ، ذاتُ الأنوفِ الكبيرة، في قاعاتٍ كبيرة دائماً، كأنه لم يشهدْ سوى هذه القاعاتِ المليئةِ بالتصفيقِ والدخان، هذه القاعاتِ ذواتِ الرسومِ البابلية، والرجلِ الرمزِ الذي صُنع بالحديد المطاوع وراح يصنعُ ثغرةً صغيرةً في الشبكِ المنكسر قليلاً، وساقاه منفرجتان تعبران عن قوةٍ داخلية عميقة كبيرة لتوسيع تلك الثغرة وينمو منها ذراعان ممدودان في مواجهة ذلك الحديد القاسي الباقي لايزال في الحاضر وهو في الزمنِ الفني منهار لا محالة! وفي الزمن الواقعي باقٍ.. ربما للأبد؟
لا يمكن أن يكون المارون الآن هم من العراق!
يغفو ثانية ويصحو رابعة.
هل أنا في بيتي؟ أم لاأزال تحت الأنقاض؟
لو كانوا هم فعلاً فليتحول هذا المنزل قبراً لقيس العدناني! (لا أريد أن أرى الحياة يوماً واحداً! لتلتهمني السباعُ الضواري! لا عشتُ ورأيتُ هذا اليوم!).
منذ الغبش التاريخي، منذ أن كان البحر رفيقاً للحواري، كان هو يمضي لعواصم النورِ العربي ببدلتهِ الرمادية، النيلُ يجري في القلوب، تخضرلا الروحُ العربية.(سألني سلطانُ الهوى، ماذا رأى؟ كلمةٌ مدوية، وعاصفةٌ عربية. تركتُ الندامى والغمامَ وذهبتُ للقضية). الجماهيرُ الغفيرةُ تنزلُ للشوارع، حشودٌ خرجتْ من الأزقة والحقول، وجمالٌ في سيارةٍ تحيطُ به الحشودُ، مطرٌ من التصفيق والهتاف. انتصرنا على الجيوش الأجنبية وسوف نبني السد، حررنا القناةَ وسنحررُ كلَ أرض عربية محتلة! منها بلدي الكويت، المثلث الصحراوي على رأس الخليج الأبي!
ثلةٌ من بلدهِ تسترخي في شقة، في جيوبِها بدايات خيرات النفط، منتشيةً بالمظاهرات والاجتماعات، وزجاجاتُ ستلة تحتشدُ على الطاولات مثل الجماهير، وجوهٌ نَحتتْ ملامحَها على الشعرِ والمرايا والورقِ القليلِ البخيل، مشتْ في أزقةٍ مظلمةٍ تنثرُ المنشورات والكلمات، ثيابهُا البيضاءُ وعقالاتها تبدو مثل حمامات سوداء، والمنازلُ صغيرةٌ، رثةٌ، من خيراتِ البحرِ تصخرتْ ومن رملهِ تناثرتْ ومن نوراسهِ طارتْ نحو الأحلام.
صورُ جمالٍ وكلماتهِ تتسربُ من تحت شقوق الأبواب، والجمهورُ يحتشدُ عند الدكاكين وفي المقاهي، يغمغمُ بالصرخات والآهات ويذهبُ منتشياً للبيوت.
يقولُ الدليلُ وهو يحملُ مزيداً من البيرة والمقبلات؛(ينقص الشقة الآن البنات الحلوات يجعلنكم تفرفشون)، وفي حين زعق أخ؛ (ازداد المنكرُ وما هكذا يكون القوميون الأقحاح!)، طرب شخصٌ (هو الزعيم لاحقاً) وانتفض، (أريد أن أتذوق جسد عربية شماء من النيل)، في حين تخثر هو وارتبك واحتار، أأضاجعُ النساءَ من بلد الثورة؟! ماذا سيقولُ جمال؟ أأدفعُ نقوداً متسخة بزيتٍ للعربياتِ المحتاجات؟ لا! لا يمكن أن أبيعَ قوميتي وديني من أجلِ لذةٍ عابرة!
وحين رقصتْ أنغامُ أم كلثوم وتهادى مركبُها الموسيقي على موجِ النيلِ الهادئ المضيء، وحامتْ بهم طيورُ البيرة وأُنزلت العُقُل وبُدلتْ الثيابُ وحلتْ البيجاماتُ الملونةُ وهامتْ النفوسُ وتخدرتْ وانتصبتْ الأجسادُ قويةً بعروقِ اللذةِ المتضخمة، وجلستْ الفتياتُ في أحضانهم، بخدودهن المتوردة، وضحكاتهن الصاهلة، ارتعشتْ دواخلهُ واهتزَ جلدهُ وهو يلاصقُ أنثى بعد طول حرمان وبعد قذائف بين اللذة ونار جهنم في دوراتِ المياه وتحت الألحفة المعتمة، والتصقَ بأنثى التصاق الولد اليتيم بأبيه، والبكر بأمهِ الناقة يشربُ من ضرعها بنهم، ولا يريد للأنثى أن تتسلل صباحاً ذاهبة إلى الشقة الحاشدة بالأهل، والأرغفة الساخنة تنهمر من الباب، والفول يمتلئُ بالدسم ويُغرفُ منه غرف الدلو من الآبارِ الممتلئة، والضحكاتُ تتفجرُ بين الغرفِ والصالةِ الواسعة المطلة على الفجر ومياه النيل الرقراقة، ومع أصواتِ الباعةِ المموسقةِ الظريفة، تتسربُ إليهم من الطرقات.
لا يريد للمرأة الجميلة أن تغيبَ عن عينيه، هذه الصبيةُ يمكن أن تكونَ زوجةً رائعة، سوف يغسلُها من الطين التجاري، ومن شوكِ الحقول، ومن عرضِ الملابسِ الداخلية في الشقق الوضيعة، سوف يتزوجها!
اتسعتْ عيونُ أخوانه وهو يقول لهم رغبته ثم انفجروا في ضحك جماعي صاعق على رأسه:
- تتزوج ماذا.. هذه مومس!
- خرجتْ من هنا لتذهب إلى شقةٍ أخرى!
- هذا مرحاضٌ عمومي يا قائدنا الهمام!
ودافعَ عن خيارهِ بقوة:
- لو أن كلَ واحدٍ منا تزوج مثل هذه الصبايا لأدينا بعضاً من واجبنا القومي. أسهمنا في تطهيرِ أرض مصر. وحين نقابلُ الزعيمَ لا نشعرُ بالخجل. نقول نحن على خطاك يوذهبوا في المساء إلى مكانٍ مختلف؛ رابطة الطلبة الكويتيين، بيتٌ واسع وقاعةٌ مليئةٌ بالطلاب والطالبات، وقدمهم طالبٌ نابهٌ واسماهم بقادةِ شعبٍ، ورمق هو الحضورَ مركزاً على جانبه الأنثوي الساحر، والتقت عيناه بعيني مريم لأولِ مرة، وقف طويلاً عند هذا الوجه الأسمر الفاتن، وحين خطب بقوة وأنشد قصيدته في مدح الرئيس، وتفجرتْ عواصفُ التصفيقِ مراراً كان يُذهلُ من صمتِ وتحجر هذه الفتاة، فلم يتلاق كفاها أبداً، وظلت عيناها تحدقُ فيه بجمود.
بينهُ وبين مريم محطاتٌ من النارِ والثلوجِ القطبية العاصفة والرياحِ والنسائمِ ومقاهي الشعر وأصواتِ الربابة، والصحارى الرمليةِ الحزينةِ، كانت ليلى وهو قيسٌ المذبوحُ الباحثُ عن لمسةٍ صغيرةٍ، وكلمةٍ، وهي في حمى القبيلة، ومنازلِ الهجير، يرحلُ ماشياً وعلى فرسهِ ويدورُ بين الخيامِ لتضربهُ الشموسُ، يمشي في فريقِها ويجثمُ قربَ بيتِها الكبير مذهولاً من هذه القَبلية المغرورة التي رضعتْ من حليبِ الشيوخ، ويرسلُ الرسلَ ولا كلمةً تأتيه، ويسخرُ من نفسهِ الذليلةِ والذائبةِ في الهوى مثل مراهق. كان الأبُ هارباً من منطقة ابن جلوي بالأحساء وعليه عدة أحكام بالجلدِ والسجن، استقرَ بالكويت وانفتحتْ أمامه سبلُ التجارة وملكَ الخشبَ مثل غابة، وغدا بيتهُ قلعةً كبيرةً ترمقُ البحرَ وتحرسه.
وصنع جسراً لها من فتياتِ الجماعة بدعوى تنظيمِها واختراقِ هذه الأسرة الكبيرة المنزوية، وجلستْ معه بحضورهن الثقيل، في ومضاتٍ من زمنِ الصيفِ حين تعودُ الحَماماتُ المثقلاتُ بمياه النيل، وشغبِ القاهرة، ورسائلِ الحبِ، وبمجلاتِ كواكب السينما الفاتنات، لكن سفراتِه العديدةَ للمهماتِ النضالية في مركز العروبة كانت تخففُ من هذا الفراقِ الطويلِ المريرِ. تقولُ لهُ الفتيات؛ (هذه معقدة، هذه لديها أفكار غريبة). (هذه لا تحب جمالاً!)، فيُسقطُ في يدهِ ويكادُ ينهار، ويتساءلُ برعبٍ؛(أهناك عربيٌّ يكرهُ الزعيمَ؟ من أين جاءتْ هذه الفتاة؟ لابد من إنقاذها!).
مريم رمحٌ من النور، غصنُ بانٍ متألق، عاشتْ معه في تلك البيوت القديمة، في الحوشِ الواسع، والحِجرِ الكبيرة، حيث يلهو معهما الدجاجُ والحمامُ والأرانب، وحيث ينزلُ الندى في الفجرِ مثل المطر، وهما متقاربان على المصطبةِ الكبيرةِ في الحوش، يسمعان الأرجلَ تهرولُ نحو الخبزِ والباقلة والكبابِ المتفجرِ بالدهنِ، والابنان يستيقظان ويعصران الشراشفَ من الرطوبة، كانت عنيدةً، غامضةً، وراءها منطقةٌ من الأسرارِ متواريةٌ بين نخيلِ الأحساء الكثيفة والفلواتِ المغمورةِ بالموتى والآثار والشغب، كانت جلساتـُهما على ضفافِ النيل خلابةً وقلقة ونازفة، لم تكن تلك الجماهير الهادرةُ التي تملأ الشوارعَ تقنعها، لا تعودُ بملصقاتٍ، ولا تأبه بالمجلاتِ الحاشدةِ بالصورِ والمقالات الملتهبة، وهي التي يأخذُها ككنوزٍ ويعودُ بها للبلد، حيث تغدو الوجبات الأساسية في ليالي القهر والضجر.
في جولاتهِ الكثيفة، في غياباتهِ الكبيرةِ المؤلمة، وقد رآها كثيراً تنتظرهُ على المقعدِ في المجلس متدثرةً بلحاف، والهواءُ الباردُ يلسعُ الليوانَ، بدتْ كما لو كانتْ خرساء، تمثالاً للصبرِ والصمتِ، كانت تشجعهُ على التراجع الخطابي، يشعرُ بمائِها يغسلُ ترابَهُ العالقَ ورمادَهُ المتولدُ من الاجتماعاتِ والسفراتِ والمؤتمراتِ والمؤامراتِ والتي كانت أغلب إنتاجها صراخاً لكن لم يستفق.
لم يصغِ لهنهناتِها الأولى، لتلك اللغةِ الطفوليةِ التي تحبو على شفراتِ الذكورةِ، لتلك الأسئلةِ البريئةِ عن المرأةِ وإنسانيتِها المهدورةِ في الكهوفِ والعباءاتِ وليلةِ الدخلةِ وأعراس الأخوة المناضلين حيث لابد أن يتأكد العريسُ من سلامةِ البضاعةِ التي استلمها، ويدققُ في الفرجِ وعدمِ دخولِ سابقين إليه، ولا يدققُ في الختانِ الذي يطفئُ حرارتها، وختانَهُ الذي يؤججُ شهواته، تلك الهنهنات التي راحتْ تتكاثر، وتصيرُ لغةً، وضحكاتٍ على النسوة المتلحفاتِ بالأسودِ والصارخاتِ بالحريةِ من وراءِ الحجابِ، وعلى الرجالِ المكافحين الذين يخبئون النساءَ الحرائرَ، المخدراتِ وراءَ الجدرانِ، ويجتمعون في المؤتمراتِ، ويهذي شعراً:(أمن أم أوفى دمنةً لم تكلمِ، بحومانةِ الدراجِ فالمتثلمِ!)، هن أنفسهن النسوةُ القادماتُ على الجِمال والجَمال، والجِمالُ مشيها وئيدا، ماذا حَملِن أحريةً أم حديدا؟!
في هذا الليلِ المنيرِ الذي يدبُ بحشرجاتهِ الآلية، وبرصاصهِ وقذائفهِ الصائبةِ والطائشةِ يرى شعرَها الأبيضَ يتوهج في الظلام.
آه يا أم لؤي كم سرقنا الزمن