دراسات
الخليج والاقتصاد العالمي.. العلاقات الخليجية - الصينية (1)
تاريخ النشر : الأحد ٢٧ مايو ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
نظمت وحدة الخليج بكلية لندن للاقتصاد التي تمول أنشطتها دولة الكويت ندوة تحت عنوان «الخليج والاقتصاد العالمي»، شارك فيها الخبيران الدوليان في الشؤون الدولية والخليجية «داني كواه»، الأستاذ بكلية لندن، و«ألستر نيوتن»، المحلل السياسي في مؤسسة «نومورا» المالية العالمية والمشارك النشط في مناقشات تعزيز الاستقرار الاقتصادي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا؛ حيث أكدا حقيقة التحول الجغرافي النظامي في الاقتصاد العالمي الحالي بانتقال مركز الجاذبية في هذا الاقتصاد شرقًا نحو القارة الآسيوية عن محوره الأطلسي التقليدي الذي يضم الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بفعل الصعود الاقتصادي القوي للاقتصادين العملاقين الصين والهند، وهذا الصعود هو الذي مكن الاقتصادات الآسيوية من السيطرة على الأسواق العالمية في المنتجات الصناعية، وأتاح لها أموالاً وفيرة تهدد بتقويض الدولار الأمريكي كعملة الاحتياطي العالمي الأساسية، الأمر الذي يفرض على بلدان مجلس التعاون الخليجي ضرورة التأقلم معه، وهي العملية التي بدأت بالفعل منذ فترة غير قصيرة.
هذه الحقيقة التي أشار إليها الخبيران تؤكدها حقيقة أن الصين غدت حقا القوة الاقتصادية الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة اعتبارًا من 2011 بناتج محلي إجمالي نحو 9,1 تريليونات دولار، منتزعة هذا المركز من اليابان عبر أكثر من ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي السريع الذي بلغ متوسطه 10% سنويا، وكذلك مراكمة الهند منذ تسعينيات القرن الماضي نموها الاقتصادي.
ولما كان هذان الاقتصادان يمثلان نحو ثلث سكان العالم، ولما كانت مراكز الثقل الاقتصادية العالمية التقليدية قد ضربتها أكثر من مرة أزمات اقتصادية ومالية عاتية، فقد بدأ يتأكد بشكل كبير أن القرن الجديد هو القرن الآسيوي، بل إن الصين مع خمسينيات القرن الحالي ستغدو القوة الاقتصادية الأولى في العالم منتزعة هذه المكانة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نبهت له قبلاً كثير من مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في أكثر من مكان في العالم، وغدا القول إنه إذا عطست الصين أصيب العالم بالزكام حقيقة واقعة، فقد باتت مصنع العالم بلا منازع.
هذا التغيير في الخريطة الاقتصادية العالمية يفرض على السياسات الاقتصادية في دول العالم وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي كونها المصدر الرئيسي، إلى الآن وفي المدى المنظور، لإمداد العالم بالطاقة، تغييرًا في بوصلتها الاقتصادية بـ«الاتجاه شرقا».
وكنتيجة أساسية لأهمية هذا الموضوع، سنفرد له أربع حلقات تنشر تباعًا لتناوله من زواياه كافة استنادًا الى القضايا التي أثارتها ندوة وحدة الخليج بكلية لندن للاقتصاد السابق الإشارة إليها في المقدمة، وفيما يلي الحلقة الأولى:
إن نهم الصين للنفط كأهم مصدر للطاقة لتغذية نموها الصناعي الذي يعد العمود الفقري لصعودها الاقتصادي جعلها تسعى وراء هذا النفط في كل بقعة متاح فيها في العالم، بل جعلها تقدم على استثمارات في البنية الأساسية في مناطق إنتاج وانتقال هذا النفط، كاستثماراتها في هذا المجال بالدول الافريقية ودول اسيا الوسطى.. وإذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي تمتلك نحو 40% من احتياطي العالم النفطي ونحو 15% من احتياطيه من الغاز الطبيعي، وتزود العالم بربع احتياجاته النفطية ونحو 20% من الغاز الطبيعي، فقد كان منطقيا أن تضع الصين التي غدت ثاني مستورد للنفط في العالم دول مجلس التعاون في بؤرة اهتماماتها وكذلك الهند، ومن أجل هذا كان تدشين منتدى التعاون العربي الصيني في 2004، وكان وضع الصين هدفا لها بوصول حجم التجارة الصينية الخليجية إلى 100 مليار دولار سنويا، ولم لا والعوائد المالية الوفيرة المتحصلة من مبيعات النفط تجعل من دول المجلس سوقًا واسعة للمنتجات الصناعية الصينية المتعددة التي تغطي كل الاحتياجات الاستهلاكية.
من جانبها وجدت رؤوس الأموال الخليجية في الاقتصاد الصيني الصاعد العديد من فرص الاستثمار ذات العوائد المرتفعة التي تمكنها من تعويض العوائد المتدنية من استثماراتها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة (75% من توجه الاستثمارات الخليجية) وهي الاستثمارات التي أخذت تتأثر بالأزمات المتكررة التي لا تعتبر أزمة 2008 ثم أزمة الديون السيادية الأوروبية وأزمة الدين العام الأمريكي آخرها.
وتبرز هنا ملحوظة مهمة، هي أن الاقتصاد الصيني الذي اعتمد نموذج التصنيع المتوجه للتصدير (بلغت قيمة تجارة الصين الخارجية 3,6 تريليونات دولار في 2011) قد تمدد ليجد ساحته العالم كله، ولهذا فليس من مصلحته حدوث تباطؤ في أماكن استيعاب صادرته، وخاصة تلك الأماكن التي تمثل نسبة كبيرة في استيعاب هذه الصادرات كالاتحاد الأوروبي، ولهذا لم يكن غريبًا إعلان رئيس وزراء الصين «ون جيه باو» في لقاء صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» في بكين في فبراير هذا العام استعداد الصين للمساهمة في حل أزمة الديون الأوروبية من خلال قنوات آلية الاستقرار المالي الأوروبية وآلية الاستقرار الأوروبية الهادفة إلى حل أزمة الديون، كما أنه لم يكن غريبًا أيضًا اتجاه 100 شركة من كبريات الشركات الصينية لإتمام إجراءات إقامة فروع رئيسية لها في بروكسل كمركز انطلاق للأسواق الأوروبية، وأن تكون أوروبا مستهدفة بالاستثمارات الصينية. ومن ثم، فإن الاستثمارات الخليجية في الصين هي استثمارات في الاقتصاد العالمي الجديد في وضعه المستقبلي الذي تتربع الصين على عرشه، يذكر أنه في خلفية هذا التحرك سعت الشركات الصينية لشراء مزيد من الشركات الأوروبية التي تتحكم في التكنولوجيات الرئيسية في المجالات المهمة، وعلى رأس هذه الشركات الصينية المصرف الصناعي والتجاري الصيني الذي يعد من أهم المصارف على المستوى العالمي سواء من حيث رأس ماله (230 مليار دولار) أو عدد عملائه (235 مليون شخص على مستوى العالم).
وإذا كان التعاون الاقتصادي الخليجي الصيني قد اكتسب قوة دفع منذ انطلاق منتدى التعاون الاقتصادي بين الصين والدول العربية في 2004، الذي يعقد مرة كل سنتين بالتناوب بين الصين والدول العربية؛ حيث ارتفع حجم التجارة الصينية ؟ العربية من 36,4 مليار دولار في هذه السنة إلى أكثر من 140 مليار دولار في 2010 ونحو 200 مليار دولار في 2011 لتصبح الدول العربية في مجموعها الشريك التجاري الثامن للصين، فقد جاء على رأس الدول العربية في التبادل التجاري مع الصين السعودية بقيمة أكثر من 43 مليار دولار في 2010، وتلي السعودية الإمارات بقيمة نحو 35 مليار دولار في السنة نفسها، ثم تأتي بعد الإمارات سلطنة عمان بقيمة نحو 11 مليار دولار، ومن خارج مجلس التعاون الخليجي يأتي العراق بقيمة نحو 10 مليارات دولار، ثم السودان بقيمة نحو 9 مليارات دولار لتستحوذ هذه الدول الخمس على نحو 78 من إجمالي تجارة الدول العربية مع الصين.
واللافت أن هذا التبادل يتسم بسيطرة النفط ومنتجاته على الصادرات العربية من جانب وسيطرة السلع الصناعية على الصادرات الصينية من جانب آخر، ويتصل بتطوير نمط هذه العلاقة تطوير قاعدة الإنتاج العربي وتنويع مصادر الدخل، وتشير بيانات إدارة الشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية إلى أن قيمة الاستثمارات الصينية في البلدان العربية قد فاقت قيمة الاستثمارات العربية في الصين، فبينما بلغت الأولى 4,2 مليارات دولار في 2010 كانت الثانية 2,6 مليار دولار، وهو ما يعني أنه رغم تزايد الاهتمام العربي بالاستثمار في الصين، فإن هذا الاستثمار مازال دون الإمساك بالفرص العديدة التي يتيحها الصعود الاقتصادي الصيني.. يذكر أن الصين قد باتت من كبار الدول التي تستثمر في الخارج؛ حيث بلغت استثماراتها الخارجية نحو 60 مليار دولار في 2010 محتلة بذلك المرتبة الخامسة عالميا.
وقد أخذت دول مجلس التعاون الخليجي والصين سواء بشكل ثنائي أو متعدد الأطراف تسير في اتجاه تعميق علاقة الشراكة الاستراتيجية التي تقوم على الاحتياج المتبادل بخطى متسارعة في الآونة الأخيرة، يشهد على ذلك تعدد الفعاليات ذات الصلة في الشهور الأخيرة، فتفعيلاً للاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني بين مجلس التعاون وجمهورية الصين الشعبية أقر الاجتماع الصيني الخليجي بالرياض في 20 مارس 2012 خطة العمل المشتركة للتعاون للفترة من 2012 -2015، التي تتضمن آليات وبرامج التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والصناعة والمجال الاقتصادي والمالي والنقدي والزراعة والأمن الغذائي والنقل والمواصلات والسياحة والتدريب والتطوير، وفي الشهر نفسه وقعت أرامكو السعودية صفقة بقيمة 10 مليارات دولار مع شركة سينيو بك الصينية لبناء مصفاة في ينبع بطاقة 400 ألف برميل يوميا، وقام رئيس مجلس الدولة الصيني «ون جيا باو» بزيارة السعودية والإمارات وقطر في يناير الماضي.
وفي يناير أيضًا كانت اجتماعات الدورة الرابعة للجنة الصينية السعودية المشتركة حول الاقتصاد والتجارة، كما وقعت الإمارات مع الصين اتفاقًا لمبادلة العملة مدته ثلاث سنوات وقيمته 5,5 مليارات دولار، بما يعزز التبادل التجاري بين البلدين من خلال تحول الإمارات لتصبح جزءًا من سوق اليوان الخارجية المتنامية مع الاتجاه إلى تحول العملة الصينية إلى عملة دولية، كما شهد الشهر نفسه مؤتمر رجال الأعمال العربي الصيني في الشارقة، وكذلك أخذت المؤسسات الرسمية والخاصة في دول المجلس في توفير الأطر التشريعية والتسهيلات التي تساعد القطاع الخاص الخليجي على الاستفادة من فرص التجارة والاستثمار في الصين سواء من خلال اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة، أو اتفاقيات منع الازدواج الضريبي، أو اتفاقيات التعاون المشترك بين الغرف التجارية والصناعية الخليجية والمجلس الصيني لترويج التجارة الدولية، أو تقديم التسهيلات للمؤسسات الوطنية الصغيرة والمتوسطة للمشاركة في المعارض الصينية، وتعميق قوة الدفع التي اكتسبها التفاعل على مستوى القطاع الخاص ورجال الأعمال والمستوى الشعبي من خلال زيادة عدد رحلات الطيران الأسبوعية بين العواصم الخليجية والمدن الصينية، يشار إلى أن عدد السياح الصينيين الوافدين إلى الإمارات مثلاً قد تجاوز 300 ألف سائح سنويا حتى أصبحت الإمارات الوجهة الأولى للسياحة الصينية في منطقة الشرق الأوسط.
وفي علاقة الاحتياج المتبادل الصينية الخليجية تنظر الصين إلى النفط الخليجي كوقود صعودها الصناعي وإلى فرص الاستثمار الواسعة التي توفرها خطط التنمية في بلدان مجلس التعاون الخليجي سواء في مجالات البنية التحتية أو القطاعات الاقتصادية، وهي الفرص المدعومة بالفائض الكبير الذي تحققه الموازين التجارية لهذه البلدان والذي بلغ 520 مليار دولار في 2011 حصلت السعودية وحدها على نصفه تقريبًا (245 مليار دولار) بعدها الإمارات (94 مليارًا) ثم قطر (79 مليارًا) وتسعى الصين حاليًا كي تأخذ مكان اليابان كشريك تجاري أول لهذه المنطقة.
يذكر أن اليابان استمرت فترة طويلة الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون؛ حيث استحوذت على 16% من صادراتها و6% من وارداتها في 2010، ويقف الفائض التجاري الذي حققته منطقة مجلس التعاون من خلال التبادل التجاري مع اليابان وكوريا الجنوبية نقطة جذب كبيرة للاستثمارات الصينية.
وهكذا، فإنه في مقابل نظرة الصين إلى منطقة مجلس التعاون الخليجي تقف نظرة دول المجلس إلى الصين باعتبارها سوقا كبيرة ومجالاً جاذبًا للاستثمارات الخليجية نتيجة موجات التحول الجديدة في الصناعة الصينية في اتجاه المجالات ذات القيمة المضافة العالية مثل تقنية المعلومات والتقنية الحيوية والطيران والمواد الحيوية؛ حيث تتيح كل هذه المجالات فرصًا ضخمة لاستثمار الأموال الخليجية، وقد أخذت السعودية والكويت وقطر بالفعل تضخ استثمارات ضخمة في مشروعات بتروكيماوية وتكرير في الأراضي الصينية، وإن كانت هذه الاستثمارات توفر عوائد مالية جيدة على المدى البعيد، فإنها لا تسهم في توفير فرص عمل أمام العمالة الخليجية، وهو ما يتطلب توجيه التعاون الصيني الخليجي في اتجاه توطين الصناعات التي تتلاءم مع السوق الخليجية ووضعها في السوق الإقليمية، وفي هذا الشأن يمكن لهذا التعاون أن يلج العديد من المجالات التي تفيد الجانبين معًا، وخاصة تلك المجالات المتصلة بإعادة التصدير كنموذج جبل علي في دبي ونموذج هونج كونج في الشرق الأقصى.