مقالات
قيمـــة القـــــيم
تاريخ النشر : الاثنين ٢٨ مايو ٢٠١٢
(قيمة القيم) عنوان كتاب لافت ومهم للدكتور المهدي المنجرة، الذي يقيم فيه تقارب منهجي بين المكونات والأبعاد الثقافية في الفكرين الغربي والعربي، حتى تشكلت هذه الفجوة بين الفكرين فيما يطول كل القيم التي أسست للنظريات المعرفية المختلفة السياسية منها والاجتماعية والثقافية.
لا أقدم عرضا للكتاب أو قراءة لصفحاته بل أضيئ على معنى القيمة من زاوية الممارسة التي جفت حقولها في كثير من ممارساتنا الثقافية والسياسية والإعلامية على وجه التخصيص نظرا إلى ما تشكله هذه الحقول من بيئة حاضنة لنظريات القيمة ومعنى القيمة، وأذكر هنا ما قاله السيد توني بلير حين كان رئيسا للحكومة البريطانية في مارس عام 2006 أنه «إن لم نستطع أن نعبر عن سياسة مشتركة مبنية على القيم المشتركة التي نتقاسمها فإننا نصبح مهددين ليس فقط بالفوضى، ولكن أيضا باستقرارنا الاقتصادي والسياسي»، ولعل غاية القول بالقيم المشتركة انها ليست شعارا ولا تداولا سياسيا وإعلاميا بقدر ما يجب أن نعتبر مكونا أساسيا في بنائنا الوطني والأممي على حد سواء، لهذا يكثر الاستشهاد بقول المهاتما غاندي «أريد كل ثقافات الأرض أن تهب قرب منزلي بكل حرية لكني أرفض أن أنقلب جراء رياحها العاتية».
العالم اليوم ليس أمامه سوى الارتهان لهذه القيمة الغائبة (قيمة القيم) بعد أن ارتهن زمنا طويلا للحروب والتطرف ونقض القيم المشتركة لغايات المصالح المتباينة، وبين هذه المشتركات في القيم والتباينات في المصالح تكمن أزمات عالم اليوم وتتجلى في سياساته، والحل الوحيد هو في القيم، ويقول الدكتور المهدي المنجرة إن القيم تتحرك على سلك زمني وتشكل أفضل وسيلة للدفاع عن الشعوب وهي وسيلة طبيعية وتقليدية إلا أنها بالرغم من تقليديتها فهي متجددة باستمرار لأن العمر الزمني للقيم لا ينتهي.
حين تتحول الوسيلة الإعلامية - مثلا - إلى تكريس عبثي لغياب قيمة القيم تصبح الحرية الإعلامية مجرد وسيلة دفاع عن مصالح وليس وسيلة تعزيز مشتركات وحين تنحصر قيمة التعليم في سياق نظري واستعراضي يفقد معناه ومبناه أيضا وحين تستكمل التنمية شروطها المادية عليها أيضا أن تتوازن مع شروطها المعنوية أو القيمية، فللتنمية أيضا منظومة من القيم التي لا يجب إغفالها، وحين تؤسس الدولة منطلقات للحوار الحر بين مختلف مكونات المجتمع إنما لأنها تعي تمام الوعي أن هذا التأسيس نابع من قيمة قيم الحرية والعدالة والمشاركة الوطنية، والمجتمع عليه أن يخضع لهذا التأسيس القيمي لكي يكون فاعلا ومشاركا في ترسيخ معنى المواطنة بكل مكوناتها القيمية، وأن يخرج من إطار الشعار إلى حين الفعل الناجز، وأن يدرك تماما أن من يخسر القيم يخسر كل التحديات الماثلة أمامه، ويصبح في مواجهة الجهل والتخلف والتطرف، ونكران الذات والتبعية للآخر، ومن هذا تكمن الغاية من وراء استناد التعليم إلى منظومة قيمية قابلة للتطبيق وماثلة في كل مناحي حياة الدولة، لأن التعليم يشكل الحلقة الأولى في بناء منظومتنا القيمية التي تجعل بدورها تعاطينا السياسي والثقافي والفكري وفقا لمعيار القيم المشتركة التي تجمعنا.
التعليم ليس غاية استعراضية، بل هو وسيلتنا للتنمية والتطور والاتساق مع العالم المسكون بحركة التغيير والتطوير، والعلم لغة العصر، والإنجاز لسان ناطق، وفي تجربتنا البحرينية تبدو إرادة التطوير التعلمي ماثلة للعيان، وتخطو بثبات نحو الإمساك بالقيمة المطلقة لبنية الدولة بمؤسساتها ومشروعاتها ورؤاها السياسية والاقتصادية فهي قيمة مطلقة كتلك التي يتبناها علم الرياضيات التي تعني بالنسبة إلى العدد التخلص من إشارة السالب، وهذا الذي نريده فعلا لا قولا، أن تكون القيم فيما بيننا حافزا للتخلص من كل الإشارات السالبة والدخول طواعية في الإيجابية الوطنية.
لم يعد ثمة متسع للكثير من الانتظار، فالعالم الذي يخطو بوتيرة متسارعة لا ينتظر أحدا، والذين يمكثون في الوراء عليهم أن يتحملوا السقوط في الحفر التي تركتها أقدام العابرين.