أفق
مع الرأسماليةِ الحرة يمينٌ ويسارٌ جديدان
تاريخ النشر : الاثنين ٢٨ مايو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
مع تكون البُنى الرأسماليةِ الحرة تتشكل طبقاتٌ مختلفة عن بُنى رأسمالياتِ الدول الشمولية.
إن تكوين رأسمالية الدولة بالتأميمات أو تقزيمها بالخصخصة، ليسا سوى شكلين لتاريخية هذه الرأسمالية بالنمو والتحلل، فمرة تتضخم ومرة تنكمش، لكن في خلال ذلك تتكون الطبقة الرأسمالية الحكومية. ولهذا فإن هذه الطبقة تعجز عن الديمقراطية فلا تقدر على تدوير رأس المال الوطني لخدمة الطبقات كافة.
فلابد أن تتشكلَ أزمة بنيوية، والأزمة البنيوية تقطعها وتحللها ثورة، وتجاوزُ الأزمة البنيوية يقودُ للرأسمالية الحرة.
مع الانتخابات وتبدل الحكومات ينشأ واقعٌ جديد هو إنتاج قطاع عام جديد منتج خال من الفساد، وهو الذي يؤدي إلى ظهور وتطور القطاع الخاص الحر المنتج الأكثر تطوراً من القطاع الخاص السابق المكبوح والمُسيطر عليه من خلال الدول.
فرأسمالية الدولة الشمولية أفسدتْ القطاعين العام والخاص، ولابد من إصلاحهما معا.
مجتمعُ الرأسماليةِ الحرة يعني الكثير من التطور والكثير من المشكلات أيضا.
يتحرر القطاعان العام والخاص بتداول السلطة ومجيء حكوماتٍ مختلفة تعبرُ عن فئات وطبقات البناء الاجتماعي، وفي حالات السيولة الراهنة فإن ثمة جبهة عريضة من الفئات المالكة والعاملة والحرفية تريد أن تغير أوضاعها الاقتصادية، ولابد أن يقودَ المخاضُ لطبقةٍ جديدة برجوازية تصهر هذه الفئات، والتكوينات الريفية والمدنية، الصناعية والتجارية والمالية، نحو تكون جديد لطبقةٍ تقودُ الصناعة وتقوم بتجديد شامل لها.
وعلى حسب نمو البناء الاقتصادي السياسي ومدى قدرة الطبقة البرجوازية الجديدة على التوحد وإنشاء مشروعات اقتصادية كبيرة وقدرة هياكلها السياسية على التعاون سوف يُعاد الإنتاج بشكلٍ موسعٍ تحويلي.
ومن دون وضع متطور مُجدّد للطبقة العاملة في كل بلد جرت فيه إعادة البناء الموسع، وتغيير طابع القطاعين العام والخاص، يصعب على الطبقة الجديدة المالكة القائدة أن تواصل الحكم والتغيير.
فالقطاع العام ملك افتراضي للشعب والمراقبة فيه كبيرة من قبل النقابات والأحزاب، ولابد للخطط الجديدة أن تراعي أحوال العمال وظروفهم المعيشية والسكنية والتعليمية وتجديدها، وهم المساهمون الأوسع في عمليات التجديد للقطاعين العام والخاص، ولهذا فإن بقاء الصراع عند صناديق الانتخابات أفضل من الصراعات في الشوارع وتوقيف عجلات الإنتاج.
إن ممثلي ملاك القطاع الخاص سيكونون هم على رأس السلطات التشريعية والتنفيذية، وسيكونون أيضاً موجهين للقطاع العام، فتكون الخريطة الاقتصادية الوطنية في أيديهم ويستطيعون أن يفسدوها أو يطوروها.
والخطط الاقتصادية العامة التي تفيد القطاعات المختلفة والطبقات المتعددة هي التي سوف تسمح بتجديد أعضاء البرلمانات وتكوين الحكومات.
وبهذا فإن السوقَ كقائدٍ اقتصادي، والبرلمانَ كقائد سياسي تشريعي، والحكومة كقائد سياسي تنفيذي، إما أن تتجمع في انسجام وإما أن تصطدم وتنشئ حراكا سياسيا صراعيا طويلا حتى تُضبط هذه الجوانب، ويتم تصحيحها من خلال الانتخابات المستمرة كتعديل في تغيير البناء الاجتماعي ليلائم مجموع الطبقات حسب الآراء والصناديق.
ولهذا فإن التيارات السياسية والفكرية سوف يُعاد إنتاجها، وتتجه للفهم وللتعبير عن البناء الاجتماعي الجديد، ولن يعود اليمين هو اليمين ولا اليسار هو اليسار، فإذا كان اليمين قد عاش طويلا على مقتطفات الفقه الإسلامي فهي لن تسعفهُ لأنه يحتاج إلى علوم الإحصاء والاجتماع والاقتصاد والقانون وعلم السكان والإنتاج، فهو يحتاج إلى اختصاصيين من الفئات الوسطى وتقنيين وعلماء كثيرين، فلابد لليمين من أن يعيد إنتاج نفسه حسب متطلبات التطور الاقتصادي الاجتماعي، ومحاولات التمسك بالسلطة والقيام بتحالفات سياسية تؤدي إلى نمو الدخول ونمو الأصوات.
واليسار سوف يعيدُ بناءَ نفسه، فاليسار القديم سيتقلص أكثر، وسيظهر يسارٌ أكثر عملية ووعيا بالرأسمالية وتطويرها وتجاوزها، وإذا نشط يمكن أن يشارك في الحكومات ويقدم برامجه الأكثر قربا للأغلبية العاملة والفئات الوسطى.
إن الجذور الدينية للجماعات السياسية ستبقى قوية لكن عمليات تجديد الأبنية الاقتصادية ونمو عمل الرجال والنساء وظهور التحولات الاقتصادية التقنية الأكثر تطورا ستقود إلى شبابية أكبر للمنتجين ومقاربة أوسع للحداثة.
والجذور الدينية الإسلامية والمسيحية سوف تفيد في بناء أخلاقيات أفضل من التطور الغربي، ومراكمة أوسع للفوائض الاقتصادية من أجل التنمية الكبرى، كما أنه يمكن استغلالها لتعطيل الحريات وتصعيد اتجاهات فقدت القدرة على مواكبة التطور فتستغل العقائد لمصالح ذاتية.
بعض الشعوب العربية تدخل منعطفا كبيرا في التاريخ، ولا شك أن التجريبية والصراعات السياسية الذاتية سوف تعرقلُ طويلا عمليات الفهم السياسي.
إن الجمهور الذي قاد التحولات الثورية هو ذاته الذي سوف يصححُ أخطاءه ويعدلُ من أنصبة القوى السياسية في البرلمانات والبلديات حسب قدرتها على الاستجابة لمطالبه في التغيير والتقدم المعيشي والاجتماعي عامة.
إن التحولات التاريخية لا تُكسب من جولة واحدة بل من مسار متعرج معقد، وهنا دور القوى التحديثية من اليمين واليسار في مقاربة بعضها بعضا وتثقيف الجمهور والتثقف منه، والتعبير عن مصالحها بأشكال عقلانية تعاونية صراعية في ظل المشترك الوطني.