قضايا و آراء
انتخابات تأسيسية لوطن وتيار
تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٩ مايو ٢٠١٢
حين كتبنا عشية الانتخابات الرئاسية عن «ظاهرة حمدين صباحي» ظن كثيرون ان الدافع وراء هذا الحديث هو انتماؤنا مع المرشح الرئاسي صباحي إلى تيار فكري وسياسي واحد، كما إلى مؤسسات عربية ودولية جامعة، وظن البعض ان الصداقة مع حمدين التي تعود إلى ثلاثة عقود ونيّف هي التي دفعتنا إلى كلام دعاويّ متفائل عن ترشيح حمدين.
لكن الملايين الخمسة الذين منحوا حمدين صباحي 20% من الكتلة المقترعة في الانتخابات الرئاسية المصرية، وكاد من خلالهم ان يتجاوز حاجز الاعادة ليصبح احد مرشحين رئيسيين لرئاسة مصر، أكدت ان تحليلنا حول هذه الظاهرة كان يستند إلى معطيات موضوعية.
ومن يتابع القنوات الفضائية المصرية المتعددة، سواء ببرامجها الحوارية، او بمقابلاتها مع المواطن المصري، يكتشف من دون صعوبة ان حمدين صباحي لم يكن مجرد مرشح بل بات حالة شعبية تكبر كالثلج لدرجة ان كثيرين قالوا لو ان موعد الانتخابات تأخر اسبوعاً واحداً لكان صباحي في الطليعة.
لا بل ان من يدرك حجم الموارد المالية المحدودة، بل الشحيحة، التي كانت تتحرك من خلالها حملة صباحي مقارنة بحملات اخرى، يدرك تماماً ان النتائج التي حققتها كانت مذهلة، كما كانت مفاجأة، لكثيرين على غرار المفاجأة التي اطلقها نجاح ثورة 25 يناير نفسها، كيف لا وكل اهل حملة صباحي جاءوا من قلب الثورة، ومن قلب الحركة التي مهدت للثورة، ومن قلب الحركة التي سعت لحماية الثورة فيما بعد؟
ولعل ما ميّز الكتلة الشعبية الضخمة التي منحت تأييدها لحمدين صباحي، انها كتلة عابرة لكل مكونات المجتمع المصري الجهوية، والدينية، الاجتماعية والعمرية، فكان بين المؤيدين مسلمون وأقباط، متدينون وعلمانيون، فقراء وأغنياء، قوميون ويساريون، مثقفون كبار ومواطنون عاديون، رجال ونساء، شيوخ وشباب، بل ان اهم ما في هذه الظاهرة ان صباحيا تفوّق بشكل كاسح على منافسيه في المدن الكبرى اي القاهرة والاسكندرية وبورسعيد، ناهيك عن محافظتي كفر الشيخ (مسقط رأسه) والبحر الاحمر إلى درجة ان البعض وصفه برئيس المدن الكبرى في مصر.
غير ان هذا التفوق لم يكن كافياً ليتجاوز صباحي تراجع اصواته في الصعيد والدلتا حيث لم يكن ممكنا لحملة انتخابية محدودة الامكانات ان تصل خلال اسابيع ثلاثة إلى كل النجوع والعزب والقرى والبلدات وهي بالاساس مناطق خاضعة للاستقطاب الحاد بين الاخوان المسلمين وانصار النظام السابق حسب خصوم الفريق احمد شفيق، او انصار «الدولة» حسب محازبي شفيق، وهو الذي كاد ان يفقد فرصة الدخول إلى الاعادة لصالح صباحي لولا نسبة محدودة من الاصوات التي تسعى الآن حملة صباحي إلى التوثيق والتحقق من حجم التجاوزات التي رافقت حصوله عليها قبل الاعلان الرسمي عن النتائج يوم الثلاثاء القادم.
ان هذا التأييد العارم، خارج التوقعات والاستطلاعات، لحمدين صباحي، وقبله لعبدالمنعم ابوالفتوح، هو في جوهره تأييد لتيار اكثر منه لشخص او تنظيم او مجموعة، هو تأييد لخيار ثالث في مصر يرفض العودة بالبلاد إلى النظام السابق، كما يحذر اي اتجاه نحو الاستئثار بالسلطة او احتكارها لصالح حزب او جماعة او اقصاء الاخر الديني او الفكري او السياسي وهو تيار ديمقراطي في مظهره، وطني مصري وعربي قومي في نواته الصلبة.
وأيا يكن الشخص الذي سيتبوأ منصب رئاسة مصر، فانه لا أحد يستطيع ان ينكر جملة حقائق افرزتها هذه الانتخابات:
أولاها: ان لا أحد في مصر، حزباً او جماعة او نظاماً، يستطيع ان يحتكر السلطة في المرحلة القادمة، وان صناديق الاقتراع وحركة الشارع ستكونان له بالمرصاد اذا خرج عن روح التوافق الوطني والسياسي في مصر القائم ليس فقط على فكرة قبول الآخر، بل على أخذ هذا الآخر بالاعتبار في كل قرار او ممارسة.
ثانيتها: انه بات لدى الشعب المصري من الوعي الوطني والديمقراطي، ومن السيولة السياسية في الانتقال من تأييد جهة إلى تأييد الاخرى، ما لن يسمح بأي محاولة لاستعادة الهيمنة او التسلط على الشعب المصري.
ومن يدرس الارقام بهدوء وتجرد بالنسبة إلى ارقام استفتاءات او انتخابات سابقة سواء في نسبة المقترعين او في توزعهم بين منطقة وأخرى يلاحظ، من دون صعوبة، تبدلات مهمة في المشهد السياسي والانتخابي تشكل تحذيرات للبعض كي لا يسترسل في تفرده، وفرصاً للبعض الآخر كي لا يفقد مكاسب كبيرة حققها عبر الانزلاق إلى سياسات قصيرة النظر وحسابات ضيقة الافق تتجاهل الطابع التأسيسي الحقيقي لهذه الانتخابات الرئاسية التي لم تكن نصرا لمصر فقط، بل كانت مدخلا حقيقيا لحياة ديمقراطية اصيلة، ولمزاج وطني حقيقي عابر لكل انواع العصبيات.
انه تأسيس لوطن.. بل تأسيس لتيار داخل الوطن.