مقال الاستاذ فهمي هويدي
«الإخوان» مطالبون بطمأنة الجميع
تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٩ مايو ٢٠١٢
فهمي هويدي
هذه لحظة الاستنفار والاحتشاد وإنكار الذات، بعدما أصبحت مصر الثورة عند مفترق طرق، وغدا طريق «الندامة» ظاهرا للعيان، وصار التهديد الماثل ينذر بإجهاض الثورة، الأمر الذي يدعو جميع فصائل القوى الوطنية إلى ضرورة إعادة النظر في مواقفها، وفي المقدمة منها جماعة الإخوان المسلمين.
(1)
لا أنسى أننا خارجون لتونا من نظام مستبد دمر الحاضر وأمات السياسة وشوه المستقبل، وأننا نخطو خطواتنا الأولى في رحلة الديمقراطية، وأفهم أننا لا ينبغي أن نتوقع انتقالا إلى ديمقراطية كاملة الأوصاف. وأن إحدى قواعد تأسيس النظام المنشود أن نقبل ونحترم كلمة صندوق الانتخاب، طالما توافرت للعملية شروط النزاهة والحرية. أدرى أيضا أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ المصري التي يتولى السلطة في البلد رئيس خارج من الصندوق، ومنتخب من بين 13 مواطنا آخرين، توسم كل واحد منهم أن بوسعه أن يرأس مصر.
هذا كله أقدره ولا أستطيع أن أتجاهله. لكنني أيضا لا أستطيع أن أغض الطرف عن أن نتائج فرز الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية وضعتنا أمام تحد لم يكن في الحسبان. إذ في حين دخلنا في تلك الجولة مخيرين بين مرشحين يتنافسون على كيفية تحقيق أهداف الثورة، فإن نتائج الفرز فاجأتنا بأننا صرنا مخيرين بين أن تكون الثورة أو لا تكون. وأن أركان الثورة المضادة أطلوا بوجوههم وفرضوا أنفسهم على المشهد الانتخابي بعدما ارتدوا مسوح الثوار ورفعوا أعلامهم.
ذلك تطور يقلقنا لا ريب. لكنني أزعم أنه لا يخيفنا ولا ينبغي له أن يشيع اليأس بيننا، بل أزعم أنه على سوئه ليس شرا كله، ولكن يمكن أن يكون له مردوده الإيجابي إذا فتحنا أعيننا جيدا واستخلصنا منه الدرس الذي يقوي من عزائمنا ويعزز من صفوفنا، بحيث تتحول الأزمة إلى فرصة كما يقول الصينيون.
(2)
إذا سألتني كيف؟ فردي تلخصه النقاط التالية:
- إن النتيجة كشفت لنا عن جانب في المشهد كان غائبا عن الأذهان، يتمثل في ظهور رموز الثورة المضادة، وثبوت قدرتهم على التحرك والتأثير. وإذا صرفنا النظر عن عددهم أو حجم تأثيرهم فالشاهد أن النظام الذي استمر طيلة ثلاثين عاما لم يسقط بسقوط رأسه، وإنما أتاحت له المدة الطويلة التي قضاها في الحكم أن يشكل طبقة مستفيدة في عمق المجتمع. وأن يزرع أيادي وأصابع له في معسكر الإدارة وأروقة السلطة. وقد كان لهؤلاء وهؤلاء دورهم الذي لا ينكر في تعزيز مرشح الثورة المضادة في بعض الأوساط. يؤيد ذلك الادعاء أن عناصر فريق (الفريق) الذين يحيطون به ويبثون دعايته هم من أبواق النظام السابق، وبعضهم من كبار رجال الأمن السابقين في الداخلية، حتى بعد الثورة.
- إن المفاجأة شكلت تحديا جديدا للجماعة الوطنية والقوى السياسية في مصر سوف يرغمها على التوافق، الذي تمنعت عنه في السابق. ذلك أن الجميع أدركوا الآن أنهم إذا لم يتوافقوا فيما بينهم من خلال التقارب والتفاهم فإن رياح الثورة المضادة سوف تعصف بهم جميعا، لذلك أزعم أنه ما كان خيارا تطوعيا قبل الانتخابات بات ضروريا بعدها. وما كان نافلة في السابق أصبح فريضة بعد «الآذان» المدوي، الذي رفعته الانتخابات.
- إن تصويت الجماهير العريضة أثبت أنها تعي ما تفعل، وأنها ليست ذلك «القطيع» المتهالك الذي ينساق وراء أكياس الأرز وزجاجات الزيت وأنابيب البوتاجاز كما صورتها وسائل الإعلام. ولكنها بوعي شديد عاقبت الإخوان على مواقفهم، وانحازت إلى من اعتبرته أكثر قربا منها، وأفضل تعبيرا عن أشواقها. وتلك شهادة ينبغي تسجيلها ووضعها في الاعتبار.
- حين اختلفت مواقف الإخوان والسلفيين، بدا واضحا للكافة أن الطرفين ليسا شيئا واحدا كما يشاع. بل تبين أن السلفيين أنفسهم ليسوا شيئا واحدا. فقد أيد بعضهم الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح. وأيد فريق آخر من السلفيين الدكتور مرسي. ولا أستبعد أن يكون بعضهم قد صوت لصالح حمدين صباحي. بالتالي فمن الآن فصاعدا لا ينبغي أن يتم التعامل مع «الإسلاميين» باعتبارهم كتلة تصويتية واحدة. ولابد أن يشار هنا إلى أن قيادات الدعوة السلفية وحزب النور قد تصرفت بدرجة ملفتة للنظر من الرشد والمسئولية، حين اعتبرت أن هناك مصلحة وطنية في الظرف الراهن تقتضي الالتفاف حول الدكتور أبوالفتوح واعتبرت أن المصلحة الوطنية تشكل نقطة لقاء، لا تنفي وجود مسافات بينها وبينه في نقاط أخرى.
- النقطة التي لا تقل أهمية عن كل ما سبق، وقد تزيد، أن المجتمع بعث من خلال التصويت العقابي برسالة تنبيه وتحذير الى الإخوان، عبرت فيه الجماهير عن عدم رضاها عن سلوكهم وأدائهم السياسي بوجه عام سواء في تراجعهم عن بعض ما وعدوا به «في عدم الترشح للرئاسة وفي نسبة المقاعد التي أرادوا الحصول عليها في البرلمان»، أو في موقفهم من لجنة الدستور التي أرادوا تشكيلها تبعا للأغلبية وليس تبعا للكفاءة والتمثيل المجتمعي. ومعلوماتي أن هذه الرسالة تلقاها الإخوان، حين وجدوا أنهم خسروا نحو خمسة ملايين صوت في الانتخابات الرئاسية مقارنة بالانتخابات التشريعية، وهذه نقطة إيجابية تحتاج إلى وقفة.
(3)
قلت في الأسبوع الماضي إن الخوف سيد الموقف في الانتخابات الرئاسية، سواء كان خوفا من الإسلاميين أو خوفا من الفلول وأركان النظام السابق. والأول أهم وأخطر لأنه ينعكس على المستقبل المفتوح، أما الخوف من الفلول فهو يظل جزءا من الماضي ومنسوبا إلى الثورة المضادة، التي تقف على النقيض تماما من الجماعة الوطنية المصرية.
للدقة فإن الخوف من الإسلاميين ليس مصدره سلوك الإخوان فقط، لكن أسهم فيه سلوك وخطاب ــ وربما مناظر - بعض السلفيين الذي أصاب الناس بالذعر، كما عمم الخوف وأشاع بين الناس موقف وسائل الإعلام التي لم تقصر في الاصطياد وتشويه الصورة والتركيز على الأخطاء والمبالغة فيها. وهو ذات الإعلام الذي لم يتغير في أساليبه شيء بعد الثورة، وإنما ظل متمسكا بتقاليد ومفردات خطاب الفزاعة المتراوح بين الإسلاميين والإخوان.
رغم تعدد مصادر الخوف وأسبابه فإنني أزعم أن الإخوان يتحملون القسط الأكبر من المسئولية عنه، لسبب جوهري هو أنهم يشكلون القوة السياسية الكبرى في البلد، إضافة إلى تمتعهم بالأغلبية في البرلمان، الأمر الذي لفت إليهم الأنظار والأضواء.
لقد أصبح مصطلح الاستحواذ لصيقا بالإخوان، إلا أنه لا يخلو من مبالغة ذهبت إلى حد اتهام الإخوان باستنساخ دور الحزب الوطني، الذي كان مهيمنا على كل المناصب الرئيسية في البلد، من رئاسة مؤسسات الدولة إلى مناصب الوزراء والمحافظين والمجالس العليا والسفراء ومديري الجامعات...الخ. ورغم أن الإخوان «أعجبتهم كثرتهم» وتصوروا أن الأغلبية التي حازوها تقتضي توليهم رئاسة مجلس الشعب والشورى والحكومة ولجنة الدستور إلى جانب دفعهم بمرشح لرئاسة الجمهورية، فإنهم لم يدركوا أن المجتمع ليس مستعدا لاحتمال وهضم هذه الصورة، بمعنى أنه غير مستعد لأن يرى «المحظورة» قد ملأت عليه الأفق وشغلت أهم أربعة أو خمسة مناصب في الدولة، متجاهلة الجماعات والقوى السياسية الأخرى. وإذا أضفت إلى ذلك ما شاع عن قلق الأقباط والنساء والمبدعين والكلام عن التدخل في الحياة الخاصة للناس، فلك أن تتصور حجم الخوف الذي انتاب الناس مما اعتبروه تغولا للإخوان أثار ارتيابهم وتوجسهم.
(4)
إذا اعتبرنا أن خوف الناس من الإسلاميين عامة والإخوان خاصة وراء تراجع شعبيتهم وتقدم غيرهم، بمن في ذلك مرشح الفلول، فإن طمأنة الناس وكسب ثقة القوى السياسية يصبحان واجب الوقت. وهذه الطمأنة لا تتحقق إلا بعد نقد ذاتي يكشف عن مواضع الخلل، وفي ظل شجاعة تدفع إلى الكشف عن الثغرات ومواضع الخلل وتحث على علاجها بسرعة وحزم.
في مقام سابق استشهدت بنجاح تجربة التوافق في تونس بين حركة النهضة الإسلامية وحزبي المؤتمر والكتلة العلمانيين، إضافة إلى عدد من الأحزاب اليسارية والقومية الأخرى. وعرضت لخلاصة ما انتهت إليه هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات حين بدأت في عام 2005 تحضير عدة أوراق تترجم التوافق حول بعض العناوين الأساسية المتعلقة بالتعايش في إدارة شئون المجتمع. وقد كان ذلك التوافق كامنا في خلفية ما جرى بعد الثورة، حين تولت حركة النهضة رئاسة الحكومة وتولى رئاسة الدولة رئيس حزب المؤتمر كما شغل رئيس حزب الكتلة منصب رئيس اللجنة التأسيسية الأقرب إلى البرلمان.
أشرت في السابق أيضا إلى تنازل حركة النهضة عن إيراد كلمة الشريعة في الدستور التونسي الجديد والاكتفاء بالاعتبار الإسلام دينا للدولة، وكيف أن الشيخ راشد الغنوشي قبل بهذه الخطوة حفاظا على وحدة الجماعة الوطنية وتجنبا لإحداث أية شروخ أو تصدعات في المجتمع.
ما ذكرته أردت به تأييد اقتراح من جانبي أدعو فيه الإخوان إلى السعي بشكل جاد لطمأنة المجتمع والقوى السياسية وإزالة أسباب الخوف التي سحبت من رصيدهم وأضعفت من موقف الجماعة الوطنية في الانتخابات الرئاسية. إلا أن ذلك الاقتراح يظل منقوصا إذا لم يطالب القوى العلمانية والليبرالية بوقف إطلاق النيران باتجاه الإسلاميين، ولو على سبيل الهدنة، حين يجتاز الجميع المرحلة الحرجة الراهنة، ذلك أننا لا نستطيع أن نطالب الإخوان بتقديم تنازلات للتوافق مع الآخرين، بينما هم يواصلون قصفهم ليل نهار والدعوة إلى إقصائهم بمختلف السبل.
إنني أدعو الإخوان إلى إصدار إعلان باسم الجماعة يقرر عدة أمور منها ما يلي: ان رئيس الحكومة القادم. إذا نجح مرشح الإخوان، سيكون كفاءة مستقلة من خارج الجماعة - ان نائب رئيس الجمهورية أو أحد نواب الرئيس سيكون من شباب الثورة المستقلين - ان الجماعة متمسكة بالقيم الديمقراطية وفي مقدمتها التعددية السياسية وتداول السلطة - ان الأقباط والنساء والشباب سيمثلون في المجلس الاستشاري للرئيس - ان الجماعة تتعهد باحترام الحريات الخاصة وحرية الإبداع كما أنها ملتزمة باحترام حقوق الإنسان بما في ذلك حرية التفكير والتعبير - انها ملتزمة بتثبيت قيمة المواطنة وبعدم التمييز بين المواطنين في الدين أو الرأي أو الجنس - ان النهضة الحقيقية لا تقوم إلا من خلال العدل الاجتماعي والانحياز إلى الفقراء.
إذا فعلها الإخوان فربما استطاعوا أن يهدئوا من روع الناس بما يبدد بعض مشاعر الخوف والقلق، التي لن تختفي إلا إذا ترجمت الأقوال إلى أفعال.