الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


رياضُ الترك رمزاً (2-2)

تاريخ النشر : الأربعاء ٣٠ مايو ٢٠١٢

عبدالله خليفة



يترك رياض الترك بعد خروجه الثاني من السجن الشعارات واللافتات المعلبة ولا يدلي بتصريحاتٍ حادةٍ كما فعل بعد خروجه الأول واصطياد النظام له، بل دخلَ في العمل السري كما بدأ تحويل لغته ومصطلحاته السياسية المستوردة إلى واقعية سياسية عميقة.
الثورة تشتعل والقائد الذي كان هادراً يتوارى، ويفكر بعمق في مصير البلد وكيفية الخروج من المذبحة التي يقيمها النظامُ للشعب ولكي يوجه الشعب للانتصار.
هناك تنسيقيات الثورة على الأرض مكونة من شباب مضح ومتحمس وهناك المثقفون السياسيون في الخارج يقودون نظرياً وإعلامياً.
الأسئلة الساخنة الحادة في الحياة اليومية هي: كيف نسقطُ النظام؟ هل نستخدم السلاح أم نعتمد على العمل السلمي؟ كيف يتم توحيد الشعب المكون من طوائف وقوميات مختلفة؟ هل تقود الثورة العفوية لنظامٍ طائفي سني يرثُ الدكتاتورية السابقة وكيف يُمنع ذلك مع تطور الثورة نفسها وللبقاء ضمن الوحدة الوطنية والتعددية؟
يتوجه رياض الترك إلى رسم خريطة هادئة للتحول الذي سوف يجري أثناء الثورة فيذكر:
(في هذا السياق إن أفضل وثيقة سياسية صدرت حتى الآن بخصوص مستقبل الثورة، هي تلك التي أنجزتها لجانُ التنسيق المحلية تحت عنوان: «رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سوريا السياسي»، كونها تمثل رؤية متكاملة لآلية نجاح الثورة وإيجاد مخارج أمنة للبلاد توقف حمام الدم وتتيح انتقالا هادئا ومتدرجا للسلطة يبدأ من الإقرار أن القضية المركزية والهدف الأول للثورة هو تغيير النظام السياسي، متمثلاً كنقطة انطلاق في إنهاء ولاية الرئيس. طبعاً يظللا التحدي الأساسي للثورة متجسداً في إمكانية كسب عقول وقلوب الفئات الصامتة التي لم تتحرك بعد، إما لحذرها من التغيير وإما لخوفها من القمع أو لحرصها على مصالحها. ومن هنا تأتي أهمية تأكيد سلمية الثورة وعلى كونها ستأتي بالحرية ليس فقط للثوار ولكن لجميع فئات المجتمع وستضمن حقوق الأقليات الدينية والإثنية)، من حديثه مع الصحفي محمد علي الأتاسي.
لا يذكر التركُ الخريطةَ المعقدةَ الاجتماعية للحياة السورية، وضخامةَ الجيش السوري المعبأ أيديولوجياً وفاشياً لعقودٍ طويلة، وبالتالي يعتقد أنه من الممكن النمو السلمي حيث الجيش وطني لا يمثل خطراً كبيراً، وكذلك فإن الطبقة الفاسدة التي تكونت من نهب القطاع العام سوف تسلم السلطة بشكل ما وتغدو هذه الطبقة مختزلة في عائلة الأسد .
والحديث (الرومانسي) عن الجيش نلقاه في أحاديث أخرى سابقة عند بداية الأحداث فيسألهُ صحفي:
(في ضوء ما يجري اليوم من زج للجيش في مواجهة المتظاهرين، ألا تعتقد أنك جانبت الصواب عندما كتبت في مقالك أنف الذكر «لن تبقى سوريا مملكة الصمت»، أنه مخطئ من يراهن «أن الجيش سيوجه فوهات بنادقه إلى صدور الشعب السوري» وأن «الجيش من الشعب والشعب من الجيش، فداخل كل دبابة هناك حفيد من أحفاد يوسف العظمة»؟
كلمات الترك صائبة وخاطئة في ذات الوقت، فتاريخيةُ الجيش الوطني السوري مشهودة في معاركه الوطنية ضد الفرنسيين، لكن الأحفاد تمتْ أدلجتهم وعسكرتهم خلال عقود النظام الشمولي، بل تم إفساد الجيش عبر ذبح الوطنيين في لبنان ثم سرقته.
هنا مع غياب التحليل التاريخي يمكن للسياسي أن يصدر كلمات عامة مكلفة، ونضال الثورة السلمي مطلوب ومن الضرورة تواصله لكن الاستعداد للنضال العنيف مطلوب كذلك، وهذا الكلام يجري في أوائل الربيع السوري الدامي، ثم يغدو الترك أكثر حذراً ويتطور نضاله متعلماً من تضحيات الناس.
لافتةُ الحزب الشيوعي تُستبدلُ بها حزب الشعب الديمقراطي، ومتابعة لجان التنسيق ومعرفة تفاصيل أعمالها والتعلم من نضالاتها وتقديم بعض الاقتراحات الضرورية، وتكييف العمل السياسي الخارجي لحراك الداخل، هي المهماتُ التي عكف عليها المناضل الكهل المتخفي الغائب عن الملاحقات الشرسة.
صارت مهمات الجيس السوري الحر الدفاع عن المتظاهرين والرد على القمع، وهو أمرٌ يجمع بين إستخدام القوة ولكن بشكل حذر وعقلاني، وكذلك هو تحفيز لتلك التاريخية الوطنية القديمة للجيش السوري للظهور، وهي تربيةٌ سياسيةٌ عسكرية كفاحية جديدة مختلفة عن الجيش النظامي الذي تخصص فيما هو مغاير لذلك.
وهي عملياتٌ أدت إلى مزيد من الانشقاقات في جيش النظام ووسعت من الجيش الحر، لكن لاتزال آلة النظام العسكرية الرهيبة باقية محتاجة إلى عون عربي ودولي كبير.
وتبدو هنا واضحة بين البصمات النضالية الصبور ذات التاريخ العريق وبين قيادة المجلس الوطني السوري، التي مثلها برهان غليون الذي أفتقد تاريخية وجذور ذلك النضال، وبدا شخصية ثقافية ذاتية أكثر منها شخصية قيادية متمرسمة في هذه اللحظات الخطِرة الدقيقة من تاريخ الشعب السوري.
رياض الترك الكهل الذي حرقَ جلدَهُ السياسي في السجون وكشطَ بموس حاد شعاريته السياسية المعلبة وغاصَ في عمق الأرض والشعب وراح في بحر الدماء والمطاردات يقدم كلماته ونصائحه الثمينة، هو ابنٌ حقيقي لهذا الشعب السوري البطل، فلا عجب أن ينجب الشعب هذا النموذج البطولي.