الثقافي
الأرضُ تحت الأنقاضِ
مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (19)
تاريخ النشر : السبت ٢ يونيو ٢٠١٢
الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلا، والفوضى في كل مكان، ويجد التعذيب شاملا، وأسرته محطمة ويقاومه ويتداخل معه العراقي الضابط المُعِّذب المناضل عبدالجبار المختار
30
والأتربة فوقه، لا يكاد أن يتنفس، يرى قيسٌ ثقوباً في عباءةِ الهواء والأشياء.
يستيقظ.
صدرهُ مفتوحٌ للرصاص، بكتْ أمه على صدره(ماتَ جمال)، كان يوماً رطباً حاراً، تساقطتْ فوق جسدهِ جبالُ الفشلِ والأسى، امتلأت الشوارعُ بالحشود ولكنها خلتْ من كائنٍ واحد، جاء الغزاةُ من كل أفق، الملايين تنتشرُ في الشوارع ثم لا أحد في المساءات والظلامات التي تلت. الآن تقضمهُ العظاياتُ وتجرهُ من بين الحصى، تمضغُ كراتٍ من لحمه، ينتبه، ابنه ثامر يهزه (صنعتُ قنبلة مولوتوف)، تطلع فيه بذهول، الخلية لم تزل طرية، والشقة المستأجرة لرفاق عدة، والليل مازال ميتاً: تذكر بورسعيد.
هو يجمعُ مقاتلين من الخليج ويقودهم من بين المخافر الإنجليزية وكشافاتهم وسفنهم، موجةٌ هائلة من الناس تسلمُ الفضةَ والحلي والذهب، ويذهبُ رفاقهُ القدامى ولا يعودون، الملايين تبكي لموت الرجل، تبكي لوحدتها، لكونها فقاقيع، ثم تمشي العظاياتُ في شوارعِ التاريخِ الفارغة، يتطلعُ إلى الزجاجة، وابنهُ يحدقُ فيه، بثقة وقوة، يحدقُ إلى هذا الكائن، كان صبيا مدللا، يحب الموسيقى والورق والوجودية، يصرخُ باسم الفرد، يأتي من فرنسا بلد الموضة والعطور متأنقاً مرهفاً، ويصيح في نفسه ها قد اكتسبنا شابا جديدا للجنس الثالث الذي يلوثُ الشوارعَ، لكن الشاب يذهب للتدريس، ويسهر الليالي وهو يقرأ، ينشرُ الأشعارَ الغريبة، والقصائد التي لا رأس لها ولا ذيل، فيصرخ (إنه جدي أكثر من اللازم ومبهم كثيراً)، رائحةُ الزجاجةِ فظيعة، ويتحاملُ على تعبهِ، ويقوم،(سأمضي قبلكَ وأفتحُ لك الطريق، ضعها في كيس، وأفرغْ جيوبكَ من البطاقات والعلامات، ألبس حذاء رياضيا، آه من أين لك؟)، يتأمله بابتسامة، ويضعُ الزجاجةَ على الأرض، كانت بطاقته الشخصية في بنطلونه، (أفضل لنا أن نموت من أن نستقبلَ الوجود.. أذلاء)، كان لحم ابنه المحبوب المرهف يحمل علامة موت، كان الجسدُ الذي يحبه وسهر عليه السنين يمسكُ قنبلةً، قد يراه متقطعاً متناثراً، أليست هذه مغامرة ومراهقة؟ كان يصرخُ به؛ مالك والغثيان وسارتر والجحيم هو الآخرون؟ عدْ إلى قرآنك وجمال والزعيم وبغداد الأزل. الآن عليه أن ينزلَ السلمَ المتعرج المغسول بملاءات الفلسطينيات والعراقيات المتغربات في شقة الجماعة، وبالأيدي المتيبسةِ الفارغةِ من الحناء، المنسوجةِ بخيوطِ الخيام الواقفةِ في وسط الرياح، ألم يكن من الأفضل يا فتى أن تهاجر؟ أن تحتفظ بهذا الشَعر الأسود والنسيج اللغوي الغامض، وترتعُ فقاقيعَ البيرةِ على ضفاف الخليج الغريب؟ يجد أن ثمة مارة مريبين يتحركون في الزقاق، انتظرَ، التصقَ بالجدار، كانت الخلايا القديمةُ تصحو على الأبوابِ المغلقة المفتوحة بشظيةٍ من عين، كانت ترهفُ السمعَ للخطوات، ثم تظهرُ الرأسُ وتحدقُ في الطرق والنوافذ، وثم تفتحُ الطريقَ للرفيق لكي يذوبَ في الظلام أو النور، الآن عيونهُ كلها من أجل ابنه، يشيرُ إليه لكي يخرج، ثم يمشيان متلصصين ملتصقين بالجدران، يبحث له عن صيدة آدمية سمينة، لم يفكر مرة أن يقدم له شابة يتعرفُ إليها، انزواؤهُ يحيره، لا يوجد شابٌ معقد مثله. يقول لأصحابهِ؛ احترتُ معه ودارتْ خرائطُ رأسي، يبدو أنه كفكتور هيجو بلحيته الصغيرة وغليونه، ويطلق سحباً من الدخان والكلمات، ويسخر من البنات والأولاد ومن أغاني حضيري بوعزيز ويكره العراق بعض الشيء من دون أن يفصح، ثم يأكلُ الورقَ، والآن لو فقده وخاصة وهو ذو لحية كثة. الآن يبحثُ له عن دوريةٍ مسلحة من الضباع، يقدمُ له وجبةً شهيةً من ثلة ذات مخالب من رشاشات، أضلاعُ النوافذِ الحديدية تضربُ ظهرَهُ الواهن، ويرى جماعةً مسترخيةً من جنود كأنها جالسة قرب خيمة، ولم يبق سوى الربابة، والغنم، يؤشر عليه، لؤي يتحسسُ جيوبَهُ ليخرج الولاعة، تنتفضُ الملابسُ، كأنها عاصفةٌ في ذلك الهدوء المروع، لا يجدها، يقتربُ منه، يمد له ولاعةً. يتطلعُ فيه بإعجاب؛ تاريخٌ من النضال يا ولدي لم يضع كله هباءً، ويؤشرُ عليه لكي يذهب، لكنه يقف وراءه، يشعلُ لؤي الفتيلَ، يتقدمُ على قاب قوسين من الهلاك، وكان جمهورُ بغداد قد نزلَ عن بكرةِ أبيه ليبكي على جمال، وفاضتْ دجلة، واغتسلتْ ملوحةُ الكويت بالدموع العراقية، واندفعتْ الزجاجةُ كأنها قوسٌ من النار، ريحٌ عاصفةٌ من الجمرِ والشرار، الجنود المذهولون الذين تتفتحُ عيونهُم فجأة، ويدهشون من مجيء الهلاك بهذه السرعة، تسقطُ بينهم الزجاجةُ التي كانت معبأةً بالبيرة منتشية بسائل الحب الناري، وتقصفُ بنادقهَم ورصاصهم وقنابلهم الكثيرة، يطيرون مع أشيائهم واشلائهم، في تحليق ناري عظيم نحو جهنم.
قيس يمشي وكان ابنه يجري فرآه وحاذاه وصار مثله، يترنحُ، يتجرحُ، ويسقط ثم ينهض، يعلو فوق رفرفة الورق والعطور ويصير نسراً، يسير مثل أبيه، الذي يتطلع للسماء، باحثاً عن نجمة معينة لم يجدها، وقد انفتحتْ النوافذُ في العمارات في عاصفةٍ من التصفيق، وانهمرتْ الرؤوسُ في الظلام تلتفُ في كل الجهات، وانهمرتْ الثرثرةُ المرعوبةُ والأسئلةُ المبتورة، وجاءتْ صيحاتُ الجنود متأخرةً والأشلاء في السماء، وقيس يلتفُ في أزقةِ ترابٍ مثل راحة يده، القى عشرَ سنواتٍ من فوق كاهله، وعشرة كيلوات من السكر، وانفتحتْ عروقهُ، والترابُ راح يجري لحذائه غير المطاطي، يغسلُها من عناء السيارات، والخمارات، والمظاهرات، واضاءتْ عيونٌ صفراءُ في الشقق الناعسة، وبعضُ الأبوابِ التي اهتزتْ انفتحتْ، وجاء صوتُ امرأة يعرفها، أم محمود، تلك المرأة التي انغرستْ في شجرة الأسمنت هذه، بين ومضة سنين وأخرى يراها، في تأميم القناة كانت صبية، رفضت أن تكون خادمة، روت له عن عيشة المخيمات، وظفها في وزارة، وتزوجتْ وهو في اليمن يشرفُ على بناءِ مدرسة، وبحثتْ عنه لكي تدعوه ولم تجده، ووجدها حاملاً، تصعدُ سلالمَ العمارة:
- ماذا تفعل يا أستاذ في هذه البناية التي لا تليق بمقامك؟
- هذه لجلسات الأصدقاء وللكتابة. تعرفين زحمة البيت والعيال وضجيجهم.
- إذا أردتَ أي مساعدة في الاعتناء بها وتنظيفها أنا حاضرة، أنتَ تأمر.
- الله يخليك.
ويسمعُ همسَها كلما مر بين جوقة الفلسطينيات:
- هذا الرجل.. قامة كبيرة.
الآن ستفضحه، والسنواتُ مرت، ومضى الفدائي للخمارة، وتركَ الشارعَ للأطفال، وأم أيمن انجبت فتى شقيا، يغسلُ السيارات ويحملُ الأغراضَ لشقق العزاب، ويبيعُ الممنوعات، ويتشاجر مع أمه، ويحاول أن يقدم له خدمات وهو يرفض، الآن سيفضحه، في هذا الليل المقاتل، وهو يضعُ شيخوختَه على كفه، يلعنُ كلَ عقود تأجير ذاته من الباطن، سوف يغرزُ محمودٌ سكينَهُ فيه.
- يا أستاذ قيس لا أرى منك أي ابتسامة أو اهتمام، يا أخي أنا عربي مثلك، ولكن الزمن ابن الشرموطة يغير الرجال، يا أخي ساعدنا في أي شغلة، في أي منفعة وأنت واصل وكبير في دائرة المعونات.
لم يعطه اهتماماً بخلافِ أمه التي حمل لها هدايا، وإذ ينفرج البابُ بها تزغرد.
- شوفتك يا أستاذ قيس ترد الروح، والله لا تتعب نفسك.
الآن ينفتحُ الممرُ عن نور ضئيل، الأمُ واقفةٌ في الأعلى، تطل على الضجة: أناسٌ تهرول، أناسٌ تنزل، وهو يخاف في هذه الطلعة أول مرة، إنها تعرف حتى قياسه في العتمة، وجاءَ صوتهُا فعلاً؛ (أهذا أنت يا أستاذ قيس؟)، تجمد عند عتبة الشقة، وخاف أن ترى ابنَهُ يدخلُ معه، ستتفجرُ دائرةٌ من اللغو وسوف تشمُ الكيروسين وخطوات الموت على التراب، لها حاسةُ شم كبيرة لدم الضحايا والشهداء، حين بكت طويلاً على ابنها فداء الذي رآه كتلة صغيرة من اللحم ثم ظهر في تعزية، كانت تشتغلُ في لحمِها لما وراء الطوفان.
- أعزيك يا أستاذ في كل أحبابك وبلدك، الله ينصركم على الظالمين مثل ما نصرتمونا.
ثم دخلتْ وتوارتْ وراء الباب، كنيزكٍ مضيءٍ عابرٍ للقارات يوزعُ السمادَ في الكون، وأمسكَ كرةَ الباب الحديدية ودفعها بقوة، وشرعَ البابَ بسرعة لمرور ابنه، وكانت روائحُ الزيتِ والنار تنتشر مثل الأقحوان.
يجثمُ على المقعد فرحاً بالانجاز وبابنه، الدوي الناري يضطرم في عقل قيس، كأنه يولد، يرى نفسه يضعُ أسلاكاً شائكةً على حدود وطنه، وألغاماً، الدوي والنور الطالع رسما دائرةً كبرى، راحت قصاصاتٌ قديمةٌ تحترقُ فيها، سوف يموتُ لو أنه اختفى، المطبخ راح يشتعل ويقدم الشاي وفتات الخبز، وقيس عادت له صرامة قوية، يحتاج الآن لمسدس، سوف يخترق أي جلد يريده، يقول(نحتاج الآن للسرية حتى بيننا، نحن الآن خلية.. تحرير). تطلع قيس في ابنه، هذا الوجه الوسيم المفتون بالكتب واللوحات والأسياخ الحارة والبيرة الباردة عند الشواطئ، طالما كان معه في الشاليه وهو يرسمُ لوحات البحر والنساء والأسماك، دخل في مراحلَ بحث فنيةٍ كثيرة، ورسم المكعبات والدوائر والألوان وأخرج فلسفةً حتى تعب، يقول لنفسه في انعطافة حادة(يجب أن نغادر هذه الشقة يا أبي إلى أي بيت قريب، أي بيت تركه أصحابه، حتى لو تسللنا)، في هذا المشي على اللهبِ قفزةُ النمرِ ممكنة، أن ترى أمعاءَكَ تندلقُ من جوفك، أن تتقيأ تاريخك الصدئ، في حموضةٍ كبريتية فسفورية، ممكنة. يقول:
اذهبْ يا رفيق لؤي واشتر مأكولات وأي صحف ولو أمكنك أن تسرق مذياعاً أو مسدساً.
ينهض لؤي من فوق الكرسي المتمدد عليه، يرى أباه يحز بلاطة كبيرة، يُدخلُ في أطرافها حد السكين، يبدو في ضوء الفجر فتياً، ذا قامة رياضية، لاتزال الدوائر الانفجارية تجمعهما في ضجة هائلة، وكل النوافذ لاتزال تراه، والعساكر نهضوا من حفرتهم الواسعة ذات الأشلاء، وأغنامهم ترعى الحشائش الدموية، وتأتي إليه رؤوسهم تتكلمُ في الفضاء، وحشودٌ وراءها من الأطفال ذوي العرائس الصامتة، تحدق فيه، وهو يتقلبُ، ويرى أباه يرفع البلاطة، وكأن انفجاراً آخر قد حدث، غبارٌ يتطاير، مجد قديم زال، دولة مؤسَّسة على قطرات المياه المجلوبة وقطرات الزيت المتبخرة مالاً، وعلى فقاقيع الغوص وذكريات القوافل التجارية المنهوبة من البدو، ولا شيء قد بقي إلا إرادة النضال.
رزمتا المال تنزلان بهدوء، كم من المال تبخر؟ تجثمان في العتمة والصلابة، تصيران بذوراً للآتي، صار المال فللاً وأسفاراً وقروشَ بر ضارية وقصوراً وشاليهات وكروشاً ونقوشاً، فليكن أخيراً ونذيراً: مقاومة.طالع لؤي الرفيقَ الأبَ القائد المؤسس وسارَ إلى الباب وفتحهُ ببطء، ونزلَ وثمة شابٌ ينزل بقوةٍ وراءه مفجراً الحجر، صبّح عليه بالخير، فرد بلهجةٍ فلسطينية خائبة التزييف، وصافحَ الأرضَ، أرضُهُ المغبرةُ الصفراءُ المحفورةُ بالعجلات، تبدو خطوطُ الجنازيرِ غائرةً بارزةً في الساحة، رغم غابة الأحذية الصافعة لها، وحشدٌ من سكانِ المنطقة تجمع يتكلم، ظهرتْ بينهم ثلةٌ مسلحةٌ تستمعُ لضابط عراقي، الذي راح يوجهُ يدَهُ لجهاتٍ عدة، البناياتُ البيضاءُ تآكلتْ قشورُها، والثيابُ المعلقةُ متداخلةٌ في نزاعٍ محمومٍ على الضوء، في الشرفات، وهو يمشي بهدوء في مكان متفجر بالأصوات، شاحنات تحمل المشروبات الروحية، ونهرُ السيارات الخاصة التي تحمل المواطنين للحدود مازال متدفقاً، كأنه ينبعُ من شتى بقاع الصحراء والمدن، يحملُ وجوهاً خائفةً حزينة، ضائعة، باحثةً عن الأمان، كلها ترمقه بحيرة، ذات ألوان سمراء وبيضاء وسوداء: الاتحاد العالمي للبشرة الخائفة، وهو يشتري أيةَ جرائدٍ للاحتلال، للصحف المتوقفة، القديمة، والجديدة، أي ورق مطبوع، يرى الحشود العسكرية المخيفة، ثمارَ النضال الوحدوي. يشتري خضراوات وفاكهة وخبزاً وأشياء أخرى لم يدقق فيها، الأفق مليء بدخان أبيض وأسود متمازجين في لولبية متحركة في الفضاء، مثل المواطنين الذائبين في الصحراء، لكن سياراتهم فخمة، ذات عجلات قوية، تكويناتها الداخلية واسعة، ملأى بالحقائب، ربما وضعوا فيها حتى الوجبات المطبوخة الساخنة، حتى لا يفوتهم السمك الزبيدي المقلي والأرز الأبيض، غرقتْ طوال تلك السنوات في الكلمات المنفصلة عن السوق، الأمراضُ جعلتْ كلَ الملايين بلا أهمية، سيلعبُ بها الأولادُ المتبطرون، كان صديقه العزيز أشد المتحمسين للرحيل، وأشدهم خوفاً. عند الدكان فوجئ بسلمان وهو من معارفه لم يغيرْ بذلتـَهُ ولم ينزعْ نظارتـَهُ، واحتفظَ بلونهِ الأسمر الهادئ وشخصيتهِ، لم يعرفه في بادئ الأمر وقامتْ ثيابُ الصبَّاغِ المستعارةِ واللحية بإخفاءِ شخصيتهِ الإبداعية، لكن الدمَ يحنُ ويجنُ، وسنواتٌ من الحوارات والثرثرات والصراعات وتبادل الكتب، لم تضع هباء، وأطبقَ على يديهِ بقوة وصاح (مبروك)، فتطلع في وجهه بذهول، وقال(مبروك على ماذا يا سلمان؟)، (على الحرية والتحرر من حكم الطواغيت)، أهو يسخر؟ أم تحول إلى مخبرٍ يحققُ في نفوسِ الخونة؟ وأكملَ بحماسٍ مذهلٍ( ماذا نريد من تلك العوائل، سرقوا البلد وغاروا في ستين داهية. الآن لابد أن نستقلَ منهم)، خفف ذلك عنه قليلاً، ولم يعبث بالكلمات وبلسانه، وكانت رؤوس كثيرة حوله، واضطرابات في الشارع، وغبار، وصعدت الشمسُ بقوة وقسوة فوق الجباه، أخذت فطنة غريبة في رأسه تتصاعد، أحسَّ بأن الشقة الملجأ تقع في منطقة خطرة، ولابد أن يُراقبَّوا بل يُداهموا في أية لح
أحسَّ كأنهُ يولد من التراب والقرآن والصراع، ذلك المعطفُ الثقيلُ من الأسى، واليأس، والنسيان، أُزيح، سقطَ بفعلِ الطوس الأغسطسي، إنه جزءٌ الآن من حشودٍ بسيطة مقاتلة، (كل ما نقدر عليه الآن هو التماسك، هو الوحدة، الوحدة بين البسطاء)، لا وحدة أبيه.
ها هي شاحناتٌ وعرباتٌ مليئةٌ بالأشياءِ الرثةِ التي جمُعتْ خلالَ سنين من الكد، اهرام من الحقائبِ المتعددةِ الألوان المربوطة جيداً، أو المتبعجة، الأولادُ يقفون فوقها نبتتْ لهم عضلاتٌ فجأة من دجاج الكويت، النسوةُ يُحشرن، الصرخاتُ تأتي من أعلى الطوابق، تتحرك السيارات بضجيج ودخان وصراخ، قوافلٌ من العيس تشد الرحال للأوطان. قبضةٌ قوية تؤلمه، يلتفت فإذا بوجه جندي عراقي متصلب يحدق فيه بسخرية وصديقه اختفى فجأة:(أنت كويتي)، وتزداد قبضتهُ صهراً لعروقهِ المليئةِ بالزيتِ وبخار الويسكي الساخن، فدهش بأن الجنسية الوطنية صارت تهمة، فتكلم بلهجة لبنانية، لكن الجندي صرخ(تعالوا.. هذا كويتي متخف، إرهابي)، فاندفعتْ إليه ثلةٌ من العظام والخياش الخضراء الوسخة التي يضعونها على أجسادهم، وتغلغلتْ أيديها في جيوبهِ وجلده، وقراطيسه، وانتزعتْ الأكلَ والتهمتهُ، وبعثرتْ الورقَ وأخذتْ الأدوات والمعلبات ودستها في جيوبها، وجرّتهُ إلى الشاحنة، كان جسمهُ خفيفاً وهو يُحذفُ إلى جوفِها المفتوح على الشمسِ مثل كيسٍ فارغ، مثل زبالة عصافير لا تطير، الشمسُ التي بزغتْ على الأمةِ من بابل، من مناشير حمورابي، كَسفتْ، يسقطُ على المعدن القاسي، له لوحاتٌ تغطي دجلةَ والفرات، وكم أحب الزقورات وألّهها مع أنكي إلهَ الماءِ، وكان هو يسبحُ في ديلمون بأغصانهِ وسفنهِ وينابيعهِ، يرى نبوخذَ نصر يحتزُ أعناقَ الملوك، ولم يصدقْ أن تمتدَ يدُهُ إليه، بعد أن دفنَ نفسَهُ عن السياسةِ وأحبَ السَفر والكتبَ والفن، يترنحُ بين حشدٍ لم يضعْ يداً تحت عجيزته العظمية، وشاهدَ وجوهاً غريبة، مسحوقةَ السحناتِ، تساقطتْ غترُها وعُقلُها وضحكاتها وشيكاتها وشيلاتها وشكيمتها، تمتد أيديها لساق العسكري برجاءات وتوسلات، وثمة كهلٌ ضخمُ الجثة، عريض المنكبين، كبير الشدقين، خال من الشاربين، يتوسل بذل فظيع؛ (يا سيدي أنا مليونير، استطيع أن أغرقك بالنقود، سوف أدفع لك كثيراً، اسأل جمعة خادمي هذا، تأخرتُ في التصييف هذا العام، ولولا ذلك لكنتُ في لندن، لدي فيلا كبيرة فيها، ولي شقة في القاهرة، أمرلا بها لأقضي حوائجي البسيطة، سوف أعطيكَ الكثيرَ غداً، فأطلقْ سراحي. ماذا تريد من كهل؟ أسألْ خادمي هذا كيف كنتُ أعيش)، ويغمغم جمعة والسيارة تترنح وتهز رؤوسهم بالإيجاب والنفي، والجندي لا يهتز، يتطلع إليهما بصرامة، يهمس(ماذا لديك الآن، الآن وليس غداً؟)، يتذكر لؤي أغنيةَ(الآن، الآن وليس غداً، أجراس العودة فلتـُقرع. الآن، الآن)، ولكن كانت الأغنية تـُبثُ في ذات الوقت من راديو السيارة ومن الإذاعة الوطنية المحتلة، والمذيع يصرخ(أنا لا أنساكِ فلسطينُ)، ويقترب لؤي من الكهل ومن جمعة ويهمس(لا يوجد سوى عسكري واحد على ظهر الشاحنة فلنتعاون ونلق به ونلذ بجلودنا)، تطلع فيه السمين برعب، صرخ؛ (اسمعْ ماذا يقول يا سيدي هذا الرجل؟ يريدُ قتلك)، لم يصدق أن يكشفَ كلامه بهذه البساطة وبهذه السرعة، وينظر له الجندي بحقد، هو نفسه الذي صادهُ في الشارع، جلف، غليظ، أكلَ بشراهة ما اشتراه، يتحسسُ هذه الصخرةَ علّهُ يجدَ شعرةً إنسانية فلا يجد فيذهل، قرأ كتباً جميلة وكلها تمجد هذا العامي المسلم الذي يمشي على قدمين، المرفوع الرأس، يشبه زهرة عباد الشمس، يُنقعُ نفسَهُ في برميل كي لا يصافح الملوك، يقطعُ رأسَهُ بالسيف كي لا يستسلم، تجمد عقله وهو يطالع الجندي والسمين، هذا نحيف كخيزرانةِ ضربِ الأطفال في المطوع، وذاك برميل نبيذ مليء بالغازات، يرفع الجندي بندقيتَهُ ويهوي بها عليه، عرف الآن أن ردة فعله السريعة، الخفيفة، وهو قد وضع يديه الاثنتين على وجهه فجاءتْ الضربةُ في أصابعه، وجزء من كتفه، وحين تطلع للدنيا بعد لحظة العمى المؤقت رآها معتمة كثيراً، ومازال السمينُ يترجى، متحسِّساً جيبيه في ثوبه الواسع الفضفاض، لا يكاد يعثر على واحدٍ منهما، وأخيراً استطاعت يدهُ أن تـُخرجَ شيئاً من بين الالتفافات والحلزونات وأكداس الشحوم، وقبض الجندي على الورقةلمالية، وضرب على زجاج السائق الذي التفت إليه ربع التفاتة وهو يسوقُ ببطءٍ في الشارع متلفتاً لأي غنمٍ بشرية سائبة، أو هاربة، فتوقف، ونزل السمين مستعيناً بقبضة الجندي وظهر جمعة، وما كاد أن يصل للرصيف حتى ركض، ركضة خفيفة، كأنه في فيلم بطيء، واراد جمعة أن ينزل، لكن الشرطي عالجه بضربة على يافوخه، فترنح وسط الجمع، وراح جمعة يهتف لسيده من دون أن تصل نداءاته الملتاعة. أما هو لؤي فقد قفز في الهواء.