الثقافي
الموتُ أقصرُ رحلةٍ للوأد
مذكراتُ الحلم في (درسِ السعادة) للقاص محمد عبدالملك (3- 3)
تاريخ النشر : السبت ٢ يونيو ٢٠١٢
ثانيا: علاقة الرجل بالحرية والطاعة العمياء.
على الرغم من أن الحرية هي إحدى الدلالات والعلامات التي تبرز في وعينا تجاه العالم والآخر فإن هذه الحرية لم تكن عملية بسيطة وسهلة في متناول المرء، بل تحتاج إلى وعي وإدراك ثقافيين وفكريين، فضلاً عن حاجتنا إلى الحلم والعمل والتضحية والمغامرة، بالإضافة إلى ضرورة احترام الآخر مهما اختلفنا معه وتباينا، وهكذا طرح الكاتب العلاقة بين الرجل والحرية في ثلاث قصص، هي: درس السعادة، القلعة، أحاديث البكم، وكل قصة لها طابع مختلف عن الأخرى سواء في شكل العلاقة أم في تكوينها، ومدى ارتباطها بالإنسان من جهة والحلم من جهة أخرى.
التطلع نحو الحرية
جاءت قصة (درس السعادة) لتؤكد الإصرار على تحقيق الحلم، كأن البحث عن السعادة هو في حد ذاته سعادة، فالأطفال الذين لا يبصرون من دون إرادتهم يحاولون حفر سعادتهم في قلوبهم وقلوب مَنْ حولهم من خلال نشاطهم الدراسي أو عبر مرحهم الاجتماعي أو ضمن مداولاتهم ومناقشاتهـم المتواصلـة، إذ كانـت »أصواتهـم تمـلأ الحديقـة الواسعـة وهــم يمسكـون أطـراف بعض، وبهـذه الطريقـة عبّروا عن ابتهاجهم بالوصول إلى المتنزه «(1)، وكشفوا من خلال هذا الطابور العسكري في السير والحركة رغبتهم في النظام والوصول، وتأكيد ما يأملون الوصول إليه وهي الفرحة والسعادة في أثناء لعبهم، هذه الفرحة التي لم تكتف بدخولها في نفوس الأطفال، بل تعدت إلى الحاضرين والجائلين في المكان »واندفع البشر المتنزهون خلف القطار مغمورين بالمفاجأة من دون استثناء«.(2) وفي قصة (أحاديث البكم) تصور مجموعة من الشباب وهم جالسون إلى طاولة واحدة يتجاذبون أطراف الحديث بلغة الإشارة والإيماءة فهم »يتحدثون حديثاً صاخباً ويقاطعون بعضهم بعضا... «.(3) فكل من حول الطاولة يعرف اللغة المتداولة، وما توحي به حركاتهم وإشاراتهم، حتى النادل تعود فهم هذه اللغة وتلبية طلباتهم واحتياجاتهم »يتحدث أحدهم إلى النادل الذي وضع أكواب الشاي.. يفهم النادل كل ما يقول حتى التفاصيل الصغيرة...«.(4)
بل كان يفهم ما يرمون إليه من حركات ونكات وضحك، كأن هؤلاء يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وهذا ما يؤكد الأمل وتحقيقه لا يقفان محصورين على المرء السوي جسديا الذي يتمتع بكل الحواس يمارس حياته بصورة طبيعية، بل مشاع إلى كل كائن حي يمكنه أن يحقق حلمه بالشيء الذي يريد، فمن يفقد إحدى الحواس لا ترجعه وتبعده عن ركب مسيرة الحياة، وإذا كانت اللغة بوصفها مفردات وجملا وعبارات منطوقة ومكتوبة، فهؤلاء البكم استطاعوا أن يجعلوا لغة الحركة والإيماءة، هي الحالة الواسطية التي تمد جسور التواصل اللغوي الإشاري بينهم حيث راحوا يستمتعون بكل لحظة في حياتهم، وآمنوا بهذا العلاقة التي تربطهم بها وهي لغة الإشارة.
وقد جاءت علاقة الرجل بالقيد في المجموعة تحديداً في قصة يمشي والمبنى فوق ظهره التي تمظهرت في نتيجة الإصرار والتحدي حيث كانت نتائج العصيان أو عدم الرغبة في البوح بالأسرار، فالسجين يتحمل مصاعب التحقيق »بعد ترميم آخر استغرق أسابيع في المستشفى عادت ضلوعـه إلى مثواها واستعاد عينه وامتلك أنفه المرمم بالجير واستقرت عظامه«(5)، والإهانات وطرح الأسئلة الاستفزازية ويتقبل الطعنات المعنوية، بل يتحمل أن يكون ضحية في مستشفى ما يعالج من الكدمات والضربات.
العلاقة بالطاعة العمياء
إن هذا العلاقة التي بين الرجل والآخر المعنية بالطاعة العمياء نعتقد أنها تحتاج إلى كشف بعض رموز القصتين بناء على عملية التأويل والدلالة والرمز، حيث رأينا أن الكاتب حاول طرح قضية تبدو هي من أهم القضايا الاجتماعية في حياتنا اليومية، تلك الحياة التي غلفت بغطاء من الطاعة العمياء من دون أن نفكر لمَ هذه الطاعة، وما المردود الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي أو حتى الديني تجاهها؟ فهناك من يقدم الطاعة كيفما طلب الآمر بها من دون أن يسأل المطيع عن الأسباب حتى مع نفسه، وهكذا طرح الكاتب هذه القضية في قصتين اثنتين، هما الرجل النائم، وحديقة نوف، بل جاء الطرح في القصتين بشكلين مختلفين، فالأول يكمن في طاعة الإنسان للإنسان، والثاني طاعة الطبيعة للإنسان، وهكذا نرى في قصة الرجل النائم يصر على أن يغمض عينيه، ولا يريد أن يرى شيئاً في هذا الواقع، الرجل يسير في الشوارع وبين المحال والسيارات من دون أن ينظر إلى أي شيء، فيقول: »أشعر هذا الشارع بالخطر وأتوقع صدمة مفاجئة في أي لحظة رغم ذلك لا أفتح عيني لأرى ما حولي«.(6)
وإصرار الرجل على السير مغمض العينين أجبر الكلعلى السماح له بالعبور من غير ملامسة الخطر، ففي الوقت الذي يسير بين السيارات والشاحنات كانت الأفواه تكركر وتحكي عنه وهو يسمع ما يقولون »وأسمع ما يدور بينهم وابتسم«(7)، وكان الاستغراب ليس عند الرجال فحسب بل الأطفال أيضاً لما يتصف به هذا الرجل من قدرة المزج بين النوم واليقظة في أثناء سيره، وأمست هذه اللعبة مكان إعجاب الجميع في المجتمع من الكبار والصغار »كنت أسمع صيحات الإعجاب من حولي، وسعادة الأطفال بهـذه اللعبة الطريفـة«(8)، بل تطـور هذا الاستغـراب إلى حيـرة الآخر والفعل الذي يمارسه هذا الرجل »لم نعرف بعد إن كان نائماً أم أعمى«.(9)
ولو كان أعمى لحمل معه عصا، ومشى ببطء حتى لا يقع، لكن الرجل ليس أعمى بل هو قادر على البصر والبصيرة، ولديه الخبرة التي تؤهله للسير بين المارة والسيارات والشاحنات من دون أن يصاب بأذى، بل راح الأطفال يمرحون بهذا الفعل ومارسوه أيضا بوصفه لعبة من جملة لُعب الطفولة البريئة محاولين تقليد الرجل في المشي وهم مغمضو العيون ثم قلد الآباء أطفالهم حتى تمادى الرجل في اللعبة أيضاً،»رأيت الأطفال يغمضون عيونهم فترة طويلة من الوقت ثم راح الآباء يقلدون الصغار، وتمادى الأطفال عندما شاركهم الكبار في اللعبة، انا تماديت أكثر«.(10)
وهذا يعطي الرجل قدرة أكبر حيث يمتلك التفوق في هذه اللعبة، غير أن الكاتب يطرح بعض التساؤلات من خلال أصوات الآخرين التي تتلقى إجابات معلبة جاهزة من قبل الناس الدهشين »ما سر هذه الظاهرة؟ إنها الهروب من الحياة، وكيف نهرب من الحياة؟ بقمع الحواس والرغبات«(11)، والتأمل المفصلي في البناء القصصي ضمن حبكة السرد يكمن في الحشد الكبير الذي كان يقلد الرجل ويغمض عيونه بمحض الإرادة، بمعنى هل المرء يترك ما حوله من قضايا مجتمعه المختلفة وينزوي بعيداً عن المشاركة في هذا الشأن أو ذاك حتى لا تتعب حواسه، وتنهك قواه، وخاصة أنه يعرف مسبقاً عجزه وعدم قدرته على التأمل، لذلك يفضل سجن نفسه داخل هذا الظلام الذي فرضه عليه بإرادته في ظل الظروف القهرية التي لا يستطيع مواجهتها؟
ولكن من يقوم بالتقليد؟ هل هو في وصف الجاهل وغير الواعي؟ فالذين كانوا يقلدون الرجل فقد وصفهم السارد متسائلاً: »إلى أي مدى هم جهلة ومساكين وسـذج؟«.(12) وهـذه المشكلـة تكمن في التقليـد الأعمـى الـذي لا يفكـر صاحبـه في النتائــج طالما صادر عن شخص يوصف بالولي أو الزعيم فــ»الأولياء يأتون بالمعجزات«(13) ولأنهم أي المقلدين لهذا الولي ساروا معه على الرغم من رغبته في الهروب من هذه اللعبة والموقف الذي وضع نفسه فيه، وجاءت نتائجه لا ترضيه ووضع الناس فيه، لذلك ساروا معه حتى نهاية النهر حيث يسير، ودخلوا معه النهر في الوقت الذي لا يعرفون مهارة السباحة »كانت أصوات من خلفي تقول ان الموت في النهر شهادة«(14)، ولكن ما النتيجـة؟ نجـاة الرجل مـن المـوت لما له من قـدرة ومهـارة فنيـة في السباحـة، وبقي المقلـدون الطائعـون في النهر »فاض الماء إلى الأعلى واندفعتُ وقفزت أمواج، سبحت طافياً وغاصوا في أعماقه«.(15)
وفي مقابل آخر تبرز قضية الطاعة في قصة حديقة نوف، تلك القضية التي تخرج من قاع الطبيعة ليس من قبل الإنسان، هذه الطبيعة التي حاول الإنسان أن يغيرها ويبدل ملامحها من دون أن تعلن رفضها أو امتعاضها حيث الزحف العمراني الذي راح يمتد يوماً بعد يوم على الأرض الزراعية، بل لا يهم ان كانت هذه الأرض هي مصدر فـرح وسعادة للأطفال »ومنذ العصر حتى المساء تتحـول حديقـة نـوف إلى مرعـى ومهرجـان صاخـب لأطفال الحارات الفقيرة«(16)، أو مصدر رزق للعباد، أو ثروة طبيعية للبلاد، أو مزار للسياح.
إن الرخاء والازدهار والنمو الاقتصادي المتواصل فرض على هذه الأرض الطاعة من أجل التغيير والتحويل من حالة يراها الاقتصاد قديمة وبالية إلى حالة تتصف بالنمو والتمدين، لذلك جاء الفرض والطاعة والتحويل من أراض للفرح واللعب وسعادة البراءة إلى عمارات وبنايات ومبان شاهقة. ونقول إذا كان العمل القصصي فعلا إبداعيا يقوم على التخطيط والرسم بشكل دقيق وواع من قبل الكاتب فهل استطاع محمد عبدالملك في هذه المجموعة أن يصل بالمتلقي عبر خريطة هندسية دقيقة إلى عالم هذه المجموعة؟ إننا نعتقد على الرغم من وجود بعض القصص التي هي عبارة عن حالة من حالات التأمل عند الكاتب، فإن المجموعة في صورتها العامة تحاول أن تأخذ المتلقي إلى عالم الذكريات التي مرت بوصفها حقائق على الكاتب وعنده، وهذه الحقائق والذكريات هي جزء من مرحلة تاريخية مر بها الكاتب والمجتمع.
لقد كانت واقعية محمد عبدالملك واضحة المعالم والاتجاهات المضمونية والمكانية والزمانية في كل قصص المجموعة، لما لها من علاقات لتسجيل بعض الحوادث والملامح التاريخية التي مرت على البحرين في فترات متقاربة ومتباعدة في آن، تلك الملامح التي هي جزء من ذكريات الكاتب وتاريخه، لذلك جاء تركيزه في المجموعة في العلاقة المحركة جل كيان الرجل ذكوريا وجسديا واجتماعيا، وهي العلاقات المتجسدة في الآخر/ المرأة- الحرية - القيد - الحالة الحسية والنفسية، وهذه الواقعية تكمن في التزام الكاتب بطرح قضايا المجتمع المحلي المرتبطة بالإنسان والحياة والمكان، وهي واقعية تقترب بواقعية المتلقي وتحديداً الذي عاصر تلك الأحداث أو كان أحد أفرادها، وهذا ما يعطينا دلالة على أن المجموعة تميزت بالشحنات التاريخية المؤلمة المثقلة بالذكريات المبضعة بالجراح والألم والتعب، وما محاولة الكاتب عرضها في صورة قصص قصيرة إلا نوع من التنفيس والرغبة في إعلانها ليس بهدف تسجيلها تاريخيا وسرديا فقط، وإنما بغرض وأدها أيضا.
1 - درس السعادة، ص.27
2 - درس السعادة، ص.28
3 - درس السعادة، ص.66
4 - درس السعادة، ص.61
5 - درس السعادة، ص.50
6 - درس السعادة، ص.17
7- درس السعادة، ص.17
8 - درس السعادة، ص.18
9 - درس السعادة، ص.18
10 - درس السعادة، ص.18
11 - درس السعادة، ص.19
12 - درس السعادة، ص.23
13 - درس السعادة، ص.20
14- درس السعادة، ص.23
15 - درس السعادة، ص.23
16 - درس السعادة، ص.77