الثقافي
عــقــوبـــــــــــــــــة
تاريخ النشر : السبت ٢ يونيو ٢٠١٢
وقف باهتزاز ورجفة قلب خافقة أمام مرآته التي ألف على القاء النظرة الاخيرة عليها قبل الخروج إلى العمل. انه يتذكر يوم اشتراها منذ سنين بعيدة. كان منزله جديدا بناه بشقاء وبأقساط هائلة من بنوك لا تعرف الرحمة. أسرته الصغيرة كانت قليلة العدد وقتها، وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره.
تأمل مظهره وشكله الخارجي هذه المرة طويلاً على غير عادته وهو يحدق في مرآته القديمة بعمق شديد كأنه يرى نفسه أول مرة. تعجب من هيئة جسده المنتصبة كنخلة هرمة. حدّث نفسه متعجبا. تأوه بكلمات دفينة في أعماقه. إنه كما هو. لم تتغير صحته كثيرا. شعره مازال مسودا رغم تغلغل بعض خصلات الشيب في ثنايا رأسه غير البائنة جليا. كيف يكون ذلك وهو الذي كبر في السن فأصبح شيخا عتيا طاعنا منذ تقاعده عن عمله؟ هل هي رحمة قد منت عليه وهو لم يصب بعد بأمراض الشيخوخة والامراض المستعصية كالضغط والسكري والقلب والشرايين؟ هل كان ذلك تعويضا له عما أصابه من ظلم وقسوة خلال سني عمله؟ لقد وقف له في الطريق اثنان من أقسى المسئولين بطشا في مرحلة مهمة من فترة شبابه المتوثبة نحو الانطلاق والتقدم والتفوق الوظيفي قاصدين الحط من كرامته الانسانية والقضاء على مستقبله الذي كان متوقعا صعود نجمه فيه إلى مراتب عالية في عمله. قضى معهما معذبا مهموما قرابة عشرين عاما. كل واحد منهما تسلّم نصف الفترة تماما. اكتوى من نيران كيدهما البغيض الشديد القسوة. لم يكن يدرك كنه تلك الكراهية المتأججة تجاهه في دواخلهما المريضة المنحلة. هل كان الخوف على منصبيهما من صعود الدماء الشابة أم هي من أدران الحقد القابع في النفوس المأزومة بالطائفية والتفرقة المذهبية التي تعمل بالسر ومن وراء الحجب؟ هل كانت هي النفوس الجشعة الطامعة للاستحواذ واستلاب الثروة والسلطة؟ لم يكن لهما همٌّ وعمل سوى القضاء عليه بوسائل حقيرة نابعة من صلاحياتهما الموكلة اليهما المفترض أن يطبقاها بعدالة وبأنصاف وبمعايير الاداء والواجبات المتميزة إلا انهما كان يعملان المكايد ونصب الشرائك لحرمانه من أبسط حقوقه في عمله المخلص والمجتهد فيه بروح مستبسلة متفانية. تمكنا منه أخيرا واستطاعا أن يشلاه ويوقعاه أسير الآهات والأمراض النفسية والتحطم والضياع إلى أن مرت السنون وتكفلت هي بالانتقام وتقديم المحاكمة العادلة وكانت عقوبتهما غير متوقعة ومؤلمة ولم يتخيل أحد حدوثها بهذه الكيفية العاجلة. أما الأول فقد أصيب بمرض خبيث فاتك. لم ينجب أي طفل أو بالأحرى هو لم يتزوج مطلقا وأية امرأة كانت ستقبل به وهو كان شاذا وساديا معتوها؟ تسربت حكايات مقززة عن طلبه إلى الخدم الذين يجلبهم من الخارج الفواحش المنكرة بعد أن يطلب إليهم تدليك جسده القذر. جمع ثروة كبيرة لم تفده في شيء فقد كان بخيلا جدا إلى أن مات، وقد انتشرت الشائعات أن خلقاً كثيراً فرح لموته بسبب تعذيبه لهم وقسوته عليهم. أما المسئول الاخر الذي كان شديد الخبث والدهاء فقد أصيب بنزيف في شرايين مخه ودماغه ويقال انه أصيب بالشلل النصفي وبعد صرف الأموال الطائلة التي كان يستولي عليها ويكتنزها في مصحات العلاج الأجنبية أخذ يخرج إلى الشوارع مرتعشا خائفا لا يكاد ينطق إلا بصعوبة بالغة ويتوكأ على عصا يترنح عليها لا يلوي على شيء، من كان يصدق انه كان في يوم ما ذاك المبجل العظيم ذو الخيلاء ة المتكبر على الضعفاء؟
أشاح بوجهه عن المرآة المتشققة في حوافها. استند بجذعه المتعب حزينا يئسا على احدى عتبات منزله متفكرا في حكمة هذه الدنيا العجيبة الفانية. من يضمن فيها شيئا؟ ألم يكن بمقدور هؤلاء الطغاة الظالمين أن يكونوا رحماء عطوفين على البسطاء ويهبوا لهم من الرزق الوفير الذي أمنهم عليه رب العباد أن يصرفوه بالعدل والكرامة والمساواة؟ اذا كانوا قد أمنوا عقوبة الأرض ولم يتعظوا من فناء الأملاك والثروات ولم يتوقعوا عذابات الأجساد وآلامها وأمراضها الفتاكة وهلاكها الحتمي كان عليهم تذكر عقوبة السماء لتي لا ترحم أحدا من الظالمين إن حلت عليهم. هذه الأحداث المؤلمة ليست من الماضي السحيق وليست سردا من قلب الروايات والاساطير، انه شاهدها ورآها رؤية العين، وربما كانت من أيام معدودة مضت.