الجريدة اليومية الأولى في البحرين


دراسات


قراءة في قمة حلف «الناتو» الأخيرة في شيكاغو

تاريخ النشر : السبت ٢ يونيو ٢٠١٢



إذا كان أمن الخليج قضية حاضرة باستمرار في اهتمامات الناتو وخاصة منذ تسعينيات القرن الماضي وسقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، وعبرت عنه بوضوح «مبادرة اسطنبول للتعاون» التي أطلقها الحلف في يونيو 2004 لتوسيع الشراكة والتعاون الأمنيين مع كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت والبحرين وقطر، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت بقوة الدول الحليفة على جانبي الأطلسي، وانعكاساتها في تخفيض موازناتها الدفاعية، كانت هي الحاضر الرئيسي في أكبر قمة يعقدها هذا الحلف الذي يضم 28 عضوًا في تاريخه، وهي القمة التي انعقدت في مدينة شيكاغو الأمريكية يومي 21، 22 مايو، والتي كان أهم قراراتها ترك أفغانستان لتداعيات أحوالها الأمنية والاقتصادية المتردية، وهي الدولة الأكثر فقرًا في العالم التي يعتبر إنتاج المخدرات والتجارة فيها عماد اقتصادها، في درس يجب أن تتنبه له كل دول العالم ومنها دولنا العربية بأن المتغطي بلحاف الناتو عريان.
إن الولايات المتحدة التي راحت في شيكاغو تبحث عن حفظ ماء الوجه لتبرير خروجها من أفغانستان بتغطية بقرار من الناتو كان يعنيها في الأساس كما يعني حلفاءها توفير الإنفاق الدفاعي ووضع حد للخسائر البشرية والمالية التي يتكبدونها، بل إن دولاً أعضاء في الحلف مثل بولندا طلب إليها أن تدفع 20 مليون دولار إسهامًا في نفقات الأمن الأفغاني الذي تتولاه الحكومة الأفغانية بعد انسحاب الناتو وجدت في هذا الرقم الضئيل عبئًا ثقيلاً تريد الاعتذار عنه.
إن قمة الناتو قد انعقدت تحت ضغوط مشاكل اقتصادية أوروبية عميقة، حتى إن عددًا كبيرًا من المصارف الأوروبية والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قد غدت تعتمد على خطط الإنقاذ المالي، كما أصبحت أزمة منطقة اليورو تظهر بقوة مرة أخرى، وأمام الأزمة الاقتصادية الأوروبية خفضت 20 دولة أعضاء في الحلف إنفاقها الدفاعي، والمرة الأولى يتجاوز حجم الإنفاق الدفاعي الآسيوي الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وتعهد الرئيس الفرنسي المنتخب فرانسوا هولاند بسحب قوات بلاده من أفغانستان هذا العام 2012 مستبقًا انسحاب الحلف بأكمله الذي حددت له القمة 2014، ونظرًا لأن هذا الانسحاب يتم بينما تفتقد حكومة قرضاي السيطرة على كامل الإقليم الأفغاني وغدت طالبان مؤهلة لإعادة سيطرتها على هذا الإقليم، فقد قام الرئيس الأمريكي «أوباما» بزيارة كابول قبل انعقاد مؤتمر قمة الناتو لتوقيع اتفاقية استراتيجية تحدد مستقبل التدخل الأمريكي في البلاد حتى 2024، كما سبقت هذه القمة أيضًا قمة أفغانية ألمانية في برلين تمخضت عنها اتفاقات تعاون في طائفة من المجالات، ولم تنعكس هذه الأزمة الاقتصادية وفشل الحل العسكري، فقط في قرار الناتو الانسحاب من أفغانستان في 2014 ولكن في إحداث تغيير استراتيجي جوهره التحول إلى ما يسميه الناتو «الدفاع الذكي» كاستراتيجية طويلة الأمد لتحسين قدرات الحلف الدفاعية، وهي تقوم على العمل الجماعي باستخدام ما هو قائم من أصول وموارد، وفي هذا المنهج تقدم مجموعات مختلفة من الدول ما بين 20 -30 مشروعًا جديدًا تغطي مختلف القطاعات والخدمات الخاصة للحلف بداية من الذخائر وصولاً إلى الخدمات الطبية.
كما أن نقل أعباء الدفاع إلى الدول المستفيدة بخدمات الناتو الأمنية يأتي عبر البند الثالث في جدول أعمال قمة الناتو التاريخية هذه حيث احتلت الشراكات مكانًا بارزًا على أجندة هذه القمة، وهي الشراكات التي طورها الحلف في العقدين الماضيين بإنشاء شبكة من الشراكات الأمنية مع بلدان في مختلف أنحاء العالم، حيث تم تسويق فكرة أن التهديدات عبر الوطنية تتطلب حلولاً متعددة الجنسية، وأن الشراكات تساعد على مواجهة التحديات المشتركة.
ومن خلال هذه الشراكات كان العالم العربي حاضرًا في قمة الناتو من خلال مشاركة الأردن والمغرب وقطر والإمارات، حيث ترأس الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي وفد دولة الإمارات الذي شارك مع قادة دول حلف الناتو وزعماء الدول المشاركة البالغ عددها 60 دولة في أضخم قمة لهذا الحلف منذ تأسيسه قبل 63 عاما، حيث أكد الحلف أهمية الشراكة مع دولة الإمارات العربية المتحدة في إطار مبادرة اسطنبول للتعاون وضمن قوات «إساف» العاملة في أفغانستان بقيادة الحلف، وأن الحلف على تواصل دائم مع الإمارات إزاء الوضع في أفغانستان وعملية السلام في الشرق الأوسط، وأن الحلف دعا حلفاءه من دول مبادرة اسطنبول والحوار المتوسطي إلى مناقشة إطلاق استراتيجية جديدة للاستماع إلى آراء من خارج دول الحلف والتعرف على وجهة نظرهم، وثمن مدير إدارة مبادرة اسطنبول جهود دولة الإمارات العربية المتحدة ومساهمتها في حفظ الأمن والسلام في البلقان وأفغانستان، إضافة إلى مبادرتها المستمرة لمساعدة الدول الفقيرة بالإغاثة ومساندتها في التغلب على عثرات التنمية والحد من التطرف وإشاعة الرخاء الاقتصادي، وأكد أن أمن الخليج ليس مهمٌّا للخليج فحسب وإنما للجميع، فالاستقرار في المنطقة ينعكس على استقرار العالم كله.
غير أن ما تمخض عنه المؤتمر فيما يخص أمن الخليج هو إعلان قادة الدول والحكومات الأعضاء في الحلف نشر المرحلة الأولى من الدرع الصاروخية الدفاعية التي تهدف إلى حماية أوروبا من هجمات صاروخية من الشرق الأوسط، وخاصة إيران، وهذه هي المرحلة الأولى من أصل 4 مراحل تمثل استكمال المنظومة الدفاعية التي تستند إلى تكنولوجيا أمريكية والمزمع استكمالها بحلول 2018 - 2020، ويجرى التحكم في هذه الدرع من قاعدة رامشتين العسكرية في ألمانيا من رادار قوي في منطقة الأناضول التركية، ومن صواريخ إس إم 3 نشرت على فرقاطات إيجيس المنتشرة في البحر المتوسط إضافة إلى صواريخ اعتراضية في بولندا ورومانيا، فهذه المرحلة تجعل من منطقة الخليج منطقة عمليات عسكرية تنطلق منها الصواريخ وترد عليها صواريخ أخرى في المنطقة ليصبح الخاسر الرئيسي في أي حرب محتملة تتحسب لها هذه الدرع هو منطقة الخليج نفسها، وترتيبًا على الدور التركي في هذه الدرع الصاروخية أكدت قمة شيكاغو الدور البنيوي لتركيا في الحلف، وهي أول وآخر دولة مسلمة تنضم إلى هذا الحلف وحافظت على ثبات علاقاتها معه مع تغير نظمها السياسية، وبعد الانتقادات العنيفة التي تعرض لها الحلف بسبب دعمه العمليات العسكرية التي جرت في ليبيا يرفض الحلف أي تدخل عسكري في سوريا، ويرى أن حل الأزمة السورية يتم من خلال عملية الانتقال السياسي وفق خطة كوفي عنان المبعوث الأممي العربي للأزمة.
وعلى الرغم من علاقة الشراكة القوية التي تربط الحلف بإسرائيل فإنه لم يتم توجيه الدعوة إليها، ليعكس هذا التوجه رغبة من الحلف في إظهار أن استهداف إيران ليس بإيعاز من إسرائيل من جانب، وأيضًا رغبته القوية في دعم عربي لهذا الاستهداف من جانب آخر، ومن المعلوم أن بداية الشراكة الإسرائيلية الأطلسية تعود إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي من خلال إطار الحوار المتوسطي التعدد الأطراف الذي ضم كلا من إسرائيل والأردن والمغرب وتونس والجزائر وموريتانيا، والذي استمر حتى 2002 يعقد اجتماعات على المستوى الرسمي، وفي هذا العام عقد اجتماعات ثنائية بين الحلف والدول فرادى، وفي 2006 نفذت إسرائيل مع الناتو أول برنامج تعاون فردي كما شاركت إسرائيل في مناورات بحرية أجراها الحلف في البحر الأسود، وتدريبات مشاة في أوكرانيا وتدريبات بحرية قبالة سواحل رومانيا في 2006، وفي 2008 وقع الناتو مع إسرائيل اتفاقًا لتعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب يقضي بتبادل المعلومات وتنظيم مناورات مشتركة، وسعت إسرائيل إلى أن يكون تعاونها مع الناتو رادعًا للدول العربية ومنظمات المقاومة فضلاً عن زيادة قدراتها العسكرية ومكانتها التجارية في تصدير واستيراد الأسلحة.
غير أنه برغم الأهمية الاستراتيجية لهذه القمة في انسحاب الناتو من أفغانستان مؤكدًا المرة الثالثة استعصاء هذا البلد على الاحتلال الأجنبي، كانت المرة الأولى إخفاقًا بريطانيٌّا والثانية إخفاقًا سوفيتيٌّا، وترشيح المنطقة بهذا الانسحاب إلى الوقوع في حالة فوضى لا تشمل أفغانستان فقط ولكنها تمتد إلى باكستان، فقد غاب عن هذه القمة رئيسا روسيا والصين الدولتين اللتين تعد أفغانستان بالنسبة إليهما على درجة عالية من الأهمية فكلتاهما دولتا جوار لأفغانستان، وفي أفغانستان كتبت سطور البداية في انهيار الاتحاد السوفيتي، كما أن أفغانستان تعد على درجة عالية من الأهمية لتمدد النفوذ الصيني في آسيا الوسطى، ووقوع هذه المنطقة في دائرة الفوضى يعني أنه قد تأجل ربما لأجل غير مسمى المشروع القديم لتمديد خطوط الغاز من آسيا الوسطى إلى المحيط الهندي عبر أفغانستان التي صارت مهددة بحرب أهلية حذر منها الساسة الأفغان عشية انعقاد مؤتمر الناتو، ليس فقط بسبب عدم قدرة الحكومة الأفغانية على بسط الأمن وهي التي ستتولاه من العام القادم 2013 وليس فقط بسبب عمق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية من بطالة وفقر ولكن بسبب تدخل دول الجوار وخاصة باكستان وإيران وسعي كل منهما إلى استمالة قبائل إليها، بما يجعل برنامج إعادة الإعمار والمساعدة الدولية للحكومة الأفغانية برنامجًا مؤجلاً، كما يلقي بظلال من الشك حول قدرة الأمم المتحدة على إدارة أو المعاونة في إدارة أوضاع المرحلة الانتقالية، وكل هذه المشكلات لم تكن بحسبان إدارة الناتو، بعبارة أخرى إرادة الدول الكبرى الأعضاء في هذا الحلف وهي تتخذ قرارها بالانسحاب من أفغانستان لتتركها لمصيرها كدولة فاشلة تصدر مشاكلها إلى من حولها أكثر من كونها عامل استقرار في إقليمها.