الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٣ - الأربعاء ٦ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١٦ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


التأثيرات السيكولوجية في إبداعات
كافكا وعبدالله الزائد





حسبما تجمع العظماءَ التركيبة السيكولوجية ذاتها.. فإن نتاجاتهم الأدبية والفكرية والثقافية والإنسانية، قد تجمعهم في ميدان الفكر والثقافة والأدب.. وبقدر ما يلتقي هؤلاء العظماء في البوتقة نفسها من توارد الخواطر، لما يعتمل في نفوسهم ويتداعى في وجدانهم، من سمو المعاني والغايات النبيلة، وارتقاء الأهداف والمبادئ العظيمة، حتى ان اختلفت في النهج والموقف.. فإنها تترك أثرها جلية في صفحات التاريخ، وتعكس بصماتها واضحة في سجل الخالدين.. فتظل مصدر الهام للإرادة الإنسانية، لتستلهم البشرية بالتالي رؤيتها من معين حكمة هؤلاء العظماء.. وتستنهض الشعوب عزيمتها من منابع تجربة هؤلاء العباقرة والمبدعين.. ومن ثم تسترشد تلك الأجيال المتعاقبة على وجه البسيطة طريقها من الاشعاعات الفكرية لعظمائها، وتتلمس كينونة وجودها من أوار الاضاءات الثقافية لفلاسفتها وأدبائها ومفكريها.

ان مبعث هذه المقدمة الموجزة هو رغبتنا التطرق إلى صفات التركيبة السيكولوجية التي جمعت ما بين الفيلسوف والأديب التشيكي (فرانز كافكا) وبين الأديب والصحفي والسياسي البحريني (عبدالله الزائد).. وإلى ما جمعهما من المواقف الفلسفية المتشابهة في لحظات مفصلية وتاريخية.

وفي ذات السياق وقبل الخوض في ماهية موضوعنا المعني بذات الاطار.. فإنه لابد لنا من التعليق على المقالة المنشورة للكاتب الدكتور (حسن مدن) في جريدة الايام بتاريخ ١٣ مايو ٢٠١٢، والمعنونة بـ «اسئلة الموت والخلود» التي معانيها ومغازيها، قد ارتبطت بصلة موضوعية وعضوية بجوهر مقالتنا هذه.. ومن ثم التعليق على بعض ما ورد في ماهية مقالة الكاتب الدكتور حسن مدن، إذ تتعلق بشيء من التشابه، وبشيء من التماثل والتطابق، ما بين الأديبين (كافكا وعبدالله الزائد.. وخاصة ازاء مصير نتاجاتهما الأدبية والفكرية والسياسية، وحول النظرة السوداوية التشاؤمية التي داهمتهما في لحظة من لحظات اليأس، وخلال فترة من فترات القنوط والكبوات.

وعلى صلة بالموضوع تطرق الكاتب الدكتور حسن مدن من خلال مقالته، فيما يتعلق بالرسالة التي حررها (كافكا) لزميله (برود) يخاطبه فيها بحسب ما جاء في مقالة الكاتب «وصيتي الشخصية في غاية البساطة، أرجوك ان تحرق كل شيء»، وكيف ان زميله رد عليه «أخبرك سلفا بأني لن أفعل»، من هذا المنطلق جاء رد (برود) برفضه وصية زميله (كافكا) بمثابة اقامة الاسوار المنيعة التي حافظت على إرث (فرانز كافكا) الثقافي والفكري والفلسفي والأدبي، حسبما رسخ هذا (الإرث) مفاهيم الحضارة الإنسانية.

وهكذا الحال بحسب ما أسلفنا الذكر أن (كافكا والزائد) قد تشابهت مواقفهما الفلسفية، وتطابقت تركيبة نفسيتيهما السيكولوجية، من تداعي الخواطر.. فإن الاديب والصحفي والسياسي البحريني (عبدالله الزائد) قد أقدم بما أقدم عليه (كافكا).. هو حينما أوصى (الزائد) أحد أصدقائه بحرق أهم نتاجاته.

ولعل بهذا الصدد فإن الكاتب الدكتور مكي محمد سرحان مؤلف كتاب (عبدالله الزائد) استرسل من خلال مؤلفه ص١٥ - ٢٥ قائلا: «كان الزائد يحتفظ بنسخ من أوراقه السياسية في ملف خاص، أودعه عند صديق دربه راشد الجلاهمة في سنوات عمره، فلما اشتدت عليه وطأة الاستسقاء وأحس بدنو أجله أمر صديقه بحرق الملف فنفذ الصديق رغبة صديقه وأحرق الملف».. وفي ضوء ذلك جاءت النتيجة مؤلمة، ذلك أن خسرت مملكة البحرين أهم تراث ونتاجات أحد كبار أدبائها ومفكريها.

وعلى الصعيد ذاته يمكن القول: إن الاديب التشيكي فرانز كافكا والاديب البحريني عبدالله الزائد، قد جمعتهما وحشة الوحدة وألم العزلة؛ فالاول اي (كافكا) عانى الوحدة واتصف ببؤس العزلة طوال حياته، أي منذ نعومة أظفاره إلى رحيله.. أما الآخر أي (الزائد) فإنه كابد الوحدة خلال الأيام الأخيرة من حياته، عندما لازم فراش المرض.. ويمكن القول بهذا الشأن: ان وحدة (كافكا) الانعزالية، قد جاءت انعكاسا لمختلف المعاناة النفسية والاسرية والاجتماعية التي لصقت به كظله، فكابدها وحمل أوجاعها في أغواره وفي صميم جوارحه.. أولاها: قسوة والده، وثانيتها: أمراضه، وثالثتها: عدم قدرته على الزواج، ورابعتها: تساؤلاته حول ديانته.

وفي هذا الإطار يؤكد الاديب الانجليزي (جيه بي بريستلي) بحسب ما جاء على لسانه قائلا: «إن كافكا قد تعرض منذ البداية لعدد من الاحباطات التي طاردته وأقلقته وعذبته بقية حياته، علاقته بوالده، مرضه الخطر، يأسه من اليهودية، عجزه الجنسي».. في ضوء ذلك فإن هذه الاحباطات دفعت بـ (كافكا) إلى التقوقع بعزلته ووحدته، اللتين وضعهما صاحبهما في حسبانه، وادخلهما في وجدانه.. قد جسدت هذه العزلة وهذه الوحدة أسبابا محورية وعوامل مفصلية، أدخلته التاريخ من أوسع أبوابه.. مؤكدا بذلك هو حينما كان يردد (كافكا) لصديقه (بولاك) قائلا: «أنا لست سوى بداية ونهاية. انني غريب بأكثر مما يكون الغرباء، انني في حاجة دائمة إلى الوحدة، وكل ما حققته لم يكن إلا ثمرتها، انني أخاف أن أفقد ذاتي في كائن آخر فأفقد مع هذا الكائن وحدتي».

هذه هي مميزات وحدة (كافكا) وما تمخض عن أوجاعها وغربتها من المكتسبات الادبية والفلسفية التي حققها صاحبها (كافكا) خلال عمره القصير الـ (واحد وأربعين عاما) ما بين (١٨٨٣ - ١٩٢٤).. فيما تجلت وحشة (الوحدة) التي كابدها الأديب والصحفي البحريني (عبدالله الزائد) نتيجة أمراضه التي ألمت به، فعبر عن أوجاعها تعبيرا وجدانيا صادرا عن مكنوناته ومن بين جنبات عقله وجوانحه.. وهو حينما أخذ يرثي حاله بأبيات شعرية مؤثرة تثير لواعج الوجدان بالأسى والألم بعمره القصير ما بين (١٨٩٤ - ١٩٤٥):

«مللت الحياة وكثر السهر

ففي الموت بعد عن النائبات

وفي الموت قصف لسهم القضا

غريب الديار خلي الوفاض

ورمت الممات وسكنى الحفر

إذا ما الزمان جفا أو غدر

وفي الموت كسر لسيف القدر

فلا لي صحب ولا لي مقر»

في نهاية المطاف نستطيع القول: ان الامم والشعوب تفخر بالنتاجات الفكرية والانجازات الفلسفية والأدبية والثقافية لعظمائها وعباقرتها ومبدعيها، التي لم تمثل ترفا أو أن تأتي من فراغ، وانما مثلت الضرورة المجتمعية والحتمية التاريخية، بقدر ما جاءت نتيجة المعاناة النفسية والمكابدة المعيشية، اللتين تتلون فيهما أبلغ المآسي والمحن، وتتضارب من خلالهما أبشع صنوف القهر والاحباطات، حين أرهقت كواهل هؤلاء العظماء وأتعبت أكتافهم، فتحملوا قسوتها وغالبوا صعابها حتى انتصروا على أوجاعها وآلامها وقضوا على دائها، بدواء ملاحمهم الأدبية والإنسانية والفكرية والفلسفية التي جسدت نموذج العظماء الذين تبوأوا قمة المجد الحضاري والتطور الاجتماعي، وذروة النهضة الإنسانية والعلمية والفلسفية والأدبية، ولعل الأديبين (فرانز كافكا وعبدالله الزائد) يمثلان هذا (النموذج الإنساني الحضاري) الذي من خلاله، تألقا بنتاجاتهما الأدبية والفلسفية التي هي جزء مهم ومفصلي من مفاهيم الحضارة الإنسانية المتفاعلة.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة