أفق
فئاتٌ صغيرة تابعة
تاريخ النشر : الأربعاء ٦ يونيو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
في البلدان المنقسمة طائفياً وقومياً كالعراق والبحرين ولبنان لعبت الفئات البرجوازية الصغيرة في الحراك السياسي مفجرة الألفاظ الثورية الهائلة لكن دون قدرة على تحريك طوبة واحدة للتوحيد الوطني والتقدم الاجتماعي.
لكن حراكها الحقيقي مدعاة للمراقبة لما يثيره من كوميديا سياسية ومشكلات اجتماعية وسياسية خطيرة معاً.
إن الصراع العربي الإيراني، المتمظهر صراعاً طائفياً، والمعبر عن سبل مختلفة بين رأسمالية دول في طريقها لليبرالية ورأسمالية دولة إيرانية شمولية عسكرية، يرسم جداراً صلداً بين الجانبين.
الطبقات الوطنية الصناعية من برجوازية وعمال غير موجودة بقوة وإتساع اجتماعي سياسي مؤثر، فيما بلدان عربية أخرى قد قاربت ذلك وتضع أقدامها على بدء مسيرات الحداثة الديمقراطية العلمانية.
ولهذا فإن مناظر البرجوازيين الصغار وهم يتقافزون على حبال الثورة الشعبية الكاسحة ويهددون بزوال دول هي عجيبة فيما بلدانهم تغرق في أزمات الانقسام والانهيار.
هم بين الإقطاعين السياسي والمذهبي، حين يرون مصلحة في الأول تقاربوا معه، وحين يجدون منافع في الثاني جلجلوا بشعاراته.
لكنهم في كل التيارات هم مع منافع الرأسمالية بدرجة أساسية. محامٍ أو طبيب سيجد أن زبائنه هم من طائفة ما فيلقي مرساته السياسية في بحرها، وسوف يتحدث عن شقائها وعذاباتها وفقرها بشكل جزئي، قاطعاً هيمنة قوى معينة عليها، وعدم كشف اللوحة العامة للمسألة، ولأن هذه الجماعة غير قادرة على أن تكون مستقلة سياسياً، وأن تحفر في واقعها وتخلق تراكمات ديمقراطية حسب ظروفه وتوحد شعبه.
وسوف يظل هذا المحامي أو الطبيب أو الاقتصادي يكرر هذه المحفوظات ربع قرن، وتجد أنه قطع علاقته بالثقافة السياسية الحديثة الديمقراطية وغرق أكثر فأكثر في ثقافة ما قبل الحداثة، وتقطعت أدواتُهُ الفكرية عن التحليل، فهنا لا فرق بين قومي وماركسي وليبرالي فقد تقطعت أدوات هذه المدارس الخصبة عن تحليل الأرض، وتحول صاحبها لفقاعة سياسية يطير في سماء المصلحة الذاتية.
والجانب الآخر لا يختلف كثيراً عن هذا حيث سيجد فرصاً أكبر في العيش، إذا كان مع الحزب الحاكم أو الدولة المذهبية، فسوف تكون ليبراليته أو ماركسيته أو قوميته أو مذهبيته على قياس المصلحة، ينفخ في جهة معينة من النار، ويستفيد من رأس المال، فيؤسس شركة أو يؤجر بناية فيكَون رأسَ مال صغير أو كبير حسب قدراته وعلاقاته.
وتتقابل الفئات الصغيرة في الصراخ وتوجيه الضربات وفي الانفعالات اليومية الصاخبة وكأنها تعيش نضالاً عظيماً، موجهة أصابع الاتهام بالخيانة دائماً للطرف الآخر.
البرجوازيات الكبيرة في هذه الدول والمماثلة لها رفعتْ يدَها عن السياسة والإنتاج الفكري السياسي العميق، وربما حتى تغرق السفنُ العربية والإيرانية في بحار السياسية المتلاطمة، فإذا وصلت لنفس مستوى البرجوازية الكبيرة السورية التي حين حاوطتها بحار الدماء وحاصرها الإفلاس رفعت أصواتها!
فعل المصالح الخاصة القصيرة الرؤية هي التي تتحكم في هذه القوى الاجتماعية، أي المصالح المباشرة المحدودة غالباً، والتي يكون العمل من خلالها وتأجيج الاختلاف بغير الأسس الموضوعية هادماً لهذه المصالح بل مُفجراً للعيش ومدمراً للبناء الاقتصادي الذي يحوي الجميع.
ضيق الأفق في رأس المال يقود لضيق الأفق في الجملة السياسية، الرأسماليات الحكومية التي تسيطر على الأسواق بشكل عام لا تتيح للبرجوازيين الصغار والعمال فرص العيش الواسعة وإمكانيات الدخول في التجارة والصناعة والزراعة، ولا تعرف كيفية السيطرة على الأبنية الاقتصادية الاجتماعية بحيث يتم الاستفادة من الفوائض المالية الكبيرة لتغيير عيش هذه الفئات ونقلها لمستويات اقتصادية أرفع.
والفئات الصغيرة نظراً لتدهور وعيها الفكري السياسي خلال ربع القرن الأخير من ظهور التحول في إيران تقوم بشق المنظمات اليسارية والقومية والليبرالية، عبر مناهجها الجزئية في التحليل والتركيز على جانب من اللوحة وطمس الجوانب الأخرى، حتى يتجه الأمر لشق الدول والبلدان.
عمليات وحدتها تغدو صعبة نظراً لهذه المناهج المربوطة بمصالح ذاتية قصيرة النظر، وتتحول لطائفيةٍ مقيتة تحجبها بالألفاظ الثورية المجلجلة عساها تخدع نفسها والآخرين.
إن قوانين الحداثة تغير هذه الأزمات، فتبادل السلطات يوزع الثروات على الطبقات، والعلمانية تفكك الارتباط بين المذاهب والدول والأحزاب لتغدو معبرة عن توجهات المواطنين المختلفة المتصارعة المتوحدة في الكل الوطني.
والعقلانية تقرأ التراث بأشكال نقدية وتضع الخطط والبرامج الحقيقية المتقدمة على الأرض.
لكن هذا يتطلب قبل كل شيء الوطنية وصدور الأفعال الفكرية والسياسية من أرض البلد.