الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٤ - الخميس ٧ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١٧ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


العوامُ الخطرون





صحيح إن الشعبَ هو الذي يصنعُ التاريخَ، لكنهُ يصنعهُ من مواد معينة وفي ظروفٍ خاصة، وفي صناعة تاريخ الشرق الحديث واجهنا دائماً ثوريين عاصفين يقفزون المراحل ولا يستندون إلى إرثٍ ثقافي تنويري ديمقراطي وحين يستندون إلى ذلك كالحركات الليبرالية الديمقراطية في النصف الأول من القرن العشرين في بعض الدول العربية يحدثُ إنتاجٌ سياسي واجتماعي وثقافي تحولي كبير.

وقد أدى عمل الثوريين العاصف إلى مشكلات كبيرة ودول استبدادية خطِرة على شعوبها ومناطقها.

والآن تواجهنا في الربيع العربي مثل هذه اللحظات الخطِرة، ويظهر مثقفون وسياسيون من بين عامةٍ متدنية في مستواها الفكري الثقافي ليطرحوا أهدافاً خطيرة غامضة، مثل ثوريي الأنظمة (الاشتراكية الدينية) كإنشاء دولة الخلافة وتطبيق الشريعة وهذا الزخم يتولد من بين الريفيين المتدفقين بقوة على المدن العربية الإسلامية، المأزومين الذين لم يتشكلوا عبر فترات نهضوية تنويرية، وهذه الظاهرة يمكن ملاحظتها في تدفق العوام المصريين على المدن وتصويتهم ودفعهم للقوى المذهبية للواجهة، أو حرب العوام السوريين ضد النظام الدكتاتوري هناك، وهم لم يظهر منهم حتى الآن مثل هذا الحراك الشمولي المحافظ كما هو في مصر، وربما يتجلى بعد ذلك، وربما تواجهه قوى ديمقراطية وليبرالية واسعة في المجتمع السوري بعد الانتصار لكننا لا نعرف حتى الآن هذا المسار.

وما نعرفه إن المسار النهضوي الليبرالي لأيام الوفد القديمة تم قطعه من خلال العوام الخطرين الذين يفرضون مستوياتهم الثقافية المحدودة على المدن، وعلى السياق المتنامي لليبرالية والديمقراطية، عبر شعاراتٍ مقطوعةٍ من سياقاتِها العربية الإسلامية، ويتم فصلها عن مسيرة البشرية الديمقراطية.

يركز هؤلاء على فساد الأنظمة السابقة وقهرها وتفقيرها، وهذه ظاهرات موجودة وحقيقية، لكن يضعونها بمعزل عن التطورات التحديثية والانجازات التي تمت فيها.

والمذهبيون السياسيون المحافظون المستندون إلى شعارات الإسلام بحسب منطقهم الاجتماعي لا يطرحون أنفسهم بصفتهم جزءًا من التراكم الديمقراطي لأي مجتمع.

فنحن لدى الإخوان المسلمين لا نلمح أنهم جزء من التراث الوطني الديمقراطي لمصر منذ الوفد مروراً بالناصرية وحتى الساداتية، فكأن كل هذا التاريخ كان عدماً، وهذا ما تفعله بقية الفصائل المذهبية المحافظة المُسيّسة للشعارات الإسلامية، وهو أمرٌ يفككُ الشعبَ، ويفككُ الأممُ الإسلامية.

فعدم الاستناد إلى إنجازات الدول والمجتمعات السابقة، ونقد السلبيات فيها، تغدو الجماعاتُ الدينية كليةً في ذواتها المطلقة، فهي لا ترتكزُ على الخبرة الوطنية البشرية للشعب، فتنحي ما هو سلبي وتصعّد ما هو إيجابي، بل تخفي برنامجها الحقيقي، وتركز على نقاط معينة خارج خريطة التاريخ الوطني.

وهي بذاتها تقوم على الجوانب السلبية للأنظمة والحركات السياسية، وتنحي إيجابياتها، فتواصلُ الدكتاتورية، وتنحي تراكمَ العناصر الديمقراطيةِ في ذلك التطور والإرث، فحين ننقدُ عبدالناصر لا يمكن أهمال تصعيده للدور المركزي للقطاع العام في الاقتصاد وإنشاء الخطط الاقتصادية الاجتماعية، أو نلغي ثقافته الوطنية التوحيدية، مثل اعتماد الإخوان كذلك وغيرهم من الطائفيين السياسيين على البرلمان والتعددية ولكن مع رفض الثقافة الليبرالية الديمقراطية الوطنية للوفد، أي هم يقومون باستغلال العناصر التعددية للنظام السياسي من أجل إنشاء شمولية اجتماعية سياسية، وتفرق المواطنين المسلمين عن المسيحيين والسنة عن الشيعة والسنة عن العلويين وغير هذا من صنوف التمزيق التي يقومُ بها هذه بعض هذه الحركات.

ومن هنا فهي تعتمد غالباً على الزخم البشري القروي الذي لم يعش فترةً ديمقراطية، لكن جاء ليكرسَ (الديمقراطية)!

إن عدمَ الاعتماد على ثقافةِ التراكم والمراحل وتطوير الراهن للسابق، وتمزيق ما هو قائم بالاعتماد كذلك على عوام التاريخ الإسلامي الذين أوجدوا التيارات الطائفية، ونحوا مراحلَ التأسيس النهضوية التوحيدية في الإسلام، فلا ترتبط هذه التيارات بطبقة أو فلسفة أو رؤية ديمقراطية توحيدية تقود إلى الإمام، بل على الاحتقان عند العامة، واستغلال هذا الاحتقان لتأسيس دكتاتوريات دينية فكل هذا لا يشكل أنظمةً ديمقراطية.

وتساعد بعض القوى المأزومة المحدودة النظر في المدن هذا الاندفاع القروي وتصعّده بدلاً من نقده وتحديثه.

وهذا الأمر لا ينفي النضال ضد الفساد والبيروقراطية المعرقلة للديمقراطية وبضرورة وضع الفائض الاقتصادي للدول في خدمة التطور الوطني عامة، بل هو يتطلبه، لكن مع نشوء دول مليئة بهذا الزخم القروي في الجيش والأمن والإدارة الذي يخلق قوته وسيطرته، ومستواه المحدود في فهم الإسلام، وفرض مستوى نصوصي محدود يُصورُ انه هو الإسلام، ويقومُ بتعميمهِ في الحياة ووسائل الإعلام وفرضه في الشارع، فينشئ طبقةً استغلالية جديدة تحافظ على مكاسبها بقمع المخالفين، وبالتالي فإن العدالة وتحقيق الفرص ورفع مستوى الجماهير تكون قد ضاعت.

ولهذا فإن أنظمةً ليبراليةً وديمقراطية تحديثية منوعة وذات سلبيات تُقاومُ عبر الحريات أفضل من أنظمة شمولية تُفرضُ من خلال عامة محدودة الوعي منساقة وراء شعارات سطحية.

إن القرويين يصلحون للديمقراطية لكن عبر قيادة مدن نهضوية ديمقراطية علمانية.



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة