قضايا و آراء
ماذا تعني تصريحات شفيق بشأن مصر وفلسطين؟
تاريخ النشر : السبت ٩ يونيو ٢٠١٢
أثارت التصريحات الأخيرة لأحمد شفيق المرشح العسكري الرئاسي لحكم مصر الكثير من الجدل والريبة في الأوساط المهتمة، فالارتجال الذي تبناه السيد شفيق لامس في جانب منه وبطريقة سطحية أو ربما أريد لتلك التصريحات أن تأخذ هذا المنحى من التهجين والإلباس لطبيعة العلاقة بين مصر وفلسطين والعكس بالعكس، إذ إن مثل تلك الخطب المغلفة والمستخفة بعقلية الشارع المصري وبجيناته السياسية الصبور والمتحملة هي تماماً ما قد حذرنا منه في مقالنا السابق، فلقد حذرنا من خطورة أن يطفو على السطح مجددا أي خطاب سياسي أو رئاسي قادم يكون محمولا على الشكلية والثرثرة الكلامية اللتين لا تُراعيان حجم مصر واعتباراتها الحقيقية المفترضة في المعيار الدولي وخصوصا في هذه المرحلة التي من المفترض أنها ستكون مُمهدة لرسم اُطر علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم من حيث صدقية طرح الخطاب السياسي وهو ما سيبلور بدوره نشوء حالة من جدية التلقي والتفاعل لدى الجمهور وبعيدا تماما عما كان دارجا بنمطية الخطب التي كان يُلقيها مبارك على مسامع الشعب.
كما أشرنا إلى أن المرحلة الرئاسية القادمة ستكون مرحلة تأسيسية ذات أهمية بالغة في صياغة حراك الشارع المصري الموجه من قبل القيادة التي من المفترض عليها أن تستحضر بين الفينة والأخرى خطابا رئاسيا واقعيا ورصينا يُعيد الذاكرة التاريخية لمصر، وعلى ذلك كان لنا تحذير مسبق من أي خطاب رئاسي يكون ذا نبرة غير متوازنة في الإشارة والمدلولات، وها هو شفيق يُطل علينا بمؤتمر صحفي هجين ومطلسم الألفاظ يقلل من حجم مصر ولا يُعطي لها ما تستحق من الهيبة والتحسب ومن غير الحاجة والتكلف في النطق بالأقوال.
إن المتربصين الغربيين الذين يسعون إلى تحجيم مصر وقولبة شعورها وحسها الجمعي مُجددا وبما يُناسب توجهاتهم ومقاصدهم في المنطقة بحيث يُستنسخ لها دور نمطي شكلي اخر كالذي تمثلته في الثلاثين سنة الماضية ومن خلال محاولات تكريس وتطبيع الذهن الجمعي بفكرة انما ثقل مصر وتأثيرها في ظل التغيرات العالمية إلا كغيرها من باقي الأقطار العربية.
لقد تعرضت مصر لموجة عاتية من الإضعاف والإفقاد للذات وللذاكرة وهي احد أهم الأسباب التي في تقديرنا أدت إلى دخولها في نوم عميق مما كلف الأمة العربية ما كلف من الخسائر الفادحة في مفاصل تاريخية حساسة،إذ إن للخطابات الرئاسية الشكلية أن تفعل فعلها السلبي في امة بحجم مصر لديها من عمر تبلور الحالة المدنية المنتجة عادةً للانضباط والالتزام بمبدأ الأمن القومي وتقديمه فوق كل اعتبار الشوط الكبير، ذلك المبدأ الذي يعد هو الحافز الشعوري الجمعي الأول المولد لحالة الانضباط والإنصات لخطاب القيادة السياسية وجعله المُوجه الأساسي لحركة بناء الأمة وتصحيح مسارها في المخاضات، ومن مثل هذا الذي تقدم تأتي خطورة الخطاب السياسي القيادي في تشكيل وعي الأمة ودفعها نحو احد خيارين إما الهمة والأنفة والعمل وإما الاستكانة والسُبات، ويبدو واضحا أن شفيقا بتصريحاته الموجهة للعب على وتر جدلية العلاقة التي يجب أن تكون عليها مصر والعالم العربي ومصر والقضية الفلسطينية تحديدا قد استنسخ نمطية الخطاب السابق لمبارك نفسه في مغازلة القوى الكبرى والتحذير من وصول أي توجه قد يكون قريبا من حماس، ولا يخفى على أي متتبع لتاريخ ذلك النظام وما أداه من دور موجه وبالغ الخطورة أفضى لإضعاف مصر والكيان العربي وقدم خدمات جليلة لإسرائيل.
كما يبدو واضحا أن شفيقا مازال غارقا في حلم التصور القديم لمرحلة مبارك، وانه يعتقد أن الشعب اسقط مباركا ونظامه وهو لا يُمانع في الاستماع لنهجه ومن دون أن يضع شفيق في اعتباره أن الشعب اسقط مباركا طالبا تغيير مرحلة بكل مفاهيمها وسياقاتها وهو لم يتكبد عناء الثورة لإسقاط أشخاص فقط.
ان تغيير المراحل الفاسدة السابقة من عمر مصر يتطلب تغييرا حفريا جذريا من القاع، صحيح ان ذلك يستحسن أن يتم بشكل تدريجي لكن ذلك لا يبرر لشفيق أو لغيره المجاهرة بإعادة تهجين وتحجيم مواقف مصر في القضايا الحساسة، وقد يكون من الحكمة في هذه المرحلة التورية والابتعاد عن استثارة هذه الملفات أو إعطاء مواقف جازمة منها وذلك خوفا على مصر من تحرك الأجندات الخارجية وتركيز جهودها المعادية لتخريب وضرب أي نجاح لمسار الثورة، إن ما هو مطلوب في هذه المرحلة في تقديرنا هو تعزيز آلية الديمقراطية بكل تشريعاتها وروحها الشفافة وذلك لن يتم إلا بإكمال مسار الثورة الذي بدا واضحا نقصانه، كما لابد وبعد تفحص سير الأحداث أن يبتعد العسكر عن مقاليد إدارة البلاد ابتعادا تاما وقبل صياغة أي دستور، بعدها تبدأ عملية البناء بسد جوع الأفواه، ومن ثم يجب أن تتم صياغة مفاهيم مناهج التعليم وذلك لإعادة هوية الأمة اللغوية والذهنية وفرضها في كل المواقع الرسمية من خلال تفعيلها في مجال العلوم والإدارة والحوسبة والطب وغيرها، وهذا لن يكون إلا بتفعيل مراكز الترجمة اللغوية المتخصصة.
إن الحال القائم اليوم في واقع معظم الأقطار العربية هو هجين ومستنسخ بكل ما يُصدر له من الغرب من مفاهيم وتجارب بل مُقدم للغة الأجنبية على لغة الأمة في المعاملات، وهذا الحال لا يمكن أن يُنتج أي نجاح لأمة تبحث عن ذاته وموقعها بين الأمم، ونحن نجزم بأن ذلك الدور التصحيحي لاستعادة هوية الأمة العربية لا يمكن أن ينجح من دون أن تتقدم مصر بمسك زمام مبادرته، فالأمم التي تنشد سيادة ذاتها مثلا لا تسمح لهويتها بأن تُجرح وتُصغّر باستبعاد لغتها الأم في مفاصل الدولة، صحيح أن هذا الذي تقدم لن يتم في عشية وضحاها وإنما سيحتاج إلى مرحلة زمنية ليست ببسيطة وخصوصا إذا تم تحريك الأجندات الخارجية لضرب أي دور حقيقي لاستعادة هوية الأمة.
وقد يسأل سائل لاستيضاح ما يجب أن يكون عليه حال الأمة بالنسبة إلى ما أثاره شفيق في تصريحاته، إن قضية فلسطين تبقى هي القضية المحورية والمركزية للأمة ومن الواضح أن حال الأمة وما اعتراها من ضعف وتأخر على مستوى مختبرات البحوث والتصنيع العسكري قد تسبب في ضياع كل الحقوق العربية في المحافل الدولية، لكن ذلك لا يمكن أن يُعطي الأجيال المعاصرة للأمة الحق في التخلي عن باقي أوراقها الضاغطة، فالسلام هو حاجة إسرائيل ومطلبها وليس مُنتهى مطالب العرب فلا اقل وبعد ثورات التغيير العربي أن يُرجع إلى تفعيل مبدأ اللاءات الثلاث، إذ إن الوضع الذي خلفته السياسات الصهيونية والغربية بزرع إسرائيل في قلب المنطقة العربية قد تسبب بجراح غائرة في صدور العرب المُخلصين فمنظر الذبح لأطفالنا في فلسطين بالقذائف الموجهة وأعيرة الرصاص المسكوب بالجماجم الطرية في غزة وغيرها وهتك ستر حرائرنا في قرى فلسطين لن يُنسى، بل إن ذلك وأمثاله أصاب كل عربي غيور بالألم والحسرة للعجز عن رد صائله بإضعافه، فإلى ماذا يُلوح شفيق بخطابه وهو يطلب حكم مصر؟ وما أدراك ما مصر في حال صحتها؟