الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي


الثنائية في رواية أيام الحب والموت لمنى عوض

تاريخ النشر : السبت ٩ يونيو ٢٠١٢



أصدرت الكاتبة منى عوض روايتها الأولى بعنوان أيام الحب والموت عن الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة في طبعتها الأولى في عام .2005 وتدور أحداث الرواية التي لا تتجاوز عدد صفحاتها 114 صفحة من القطع الصغير، حول مجموعة من أطباء وممرضين مصريين ذهبوا إلى العراق ابان الأزمة العراقية نتيجة الحصار الغربي والأمريكي له وخاصة بعد المحاولات الأمريكية إقناع العالم ملك العراق السلاح النووي، وتحديدًا إلى محافظة البصرة من أجل العمل في المستشفيات هناك، وليؤكدوا دورهم في المساعدة لإخوانهم العراقيين الذين يتعرضون لتهديدات من قبل الأمريكان والإنجليز، تلك التهديدات التي اعتبرتها هذه المجموعة فقاقيع صحفية، وأن الوضع في العراق طبيعي والاستقرارين الأمني والعسكري موجودان، غير أن هذه المجموعة تكتشف بعد عدة شهور ما كانت تنشره الصحف من تهديدات بريطانيا إلى العراق قد تحقق بقصف البصرة.
ونتيجة لتأكيد المخاوف داخل العراق، وبعد التحقق من النيات التي تنويها الدول الغربية تجاه العراق نرى الأحداث تستمر في عالم الرواية لتكشف عن طبيعة التلاحم والتعاضد بين الأفراد والجماعات تمحورت في نسيج العلاقات الاجتماعية والإنسانية والدينية بين الإخوة العرب في هذه المحنة التي أودت بعدد ممن ذهبوا إلى العراق، لذلك اضطرت السفارة المصرية في العراق بعد اشتداد القصف والخوف على رعاياها إلى إعلان ترحيل البقية من المصريين الذين لايزالون على قيد الحياة.
وإذا كانت هذه الرواية القصيرة تتحدث عن مأساة الشعب العراقي والعراق السياسية والتهديدات الأجنبية من أمريكا وبريطانيا، فإنها تتحدث أيضًا عن العلاقة بين الأطباء الذين اقسموا على ميثاق شرف المهنة، وتتحدث عن حاجة المرء إلى تغيير نمط حياته الاجتماعية والمادية، وإن كان هذا يعرضه للسفر والانتقال من مكان لآخر، وفي الوقت ذاته ترمي الرواية إلى الرابط الأخوي بين الإنسان العربي وأخيه العربي مهما تباعدت الأماكن الجغرافية وتنوعت اللغات المحكية، وتعددت الديانات والمعتقدات والمذاهب.
هكذا حاولت الكاتبة منى عوض أن تطرح هذه القضايا الرئيسة في العالم العربي التي كانت الأجيال تفنى من أجل إيجاد الحلول لها عبر نشيد وإيقاع موسيقي يقول بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان، هذا الإحساس العروبي الوحدوي أبرزته الكاتبة في شخصية الدكتور سالم الذي جاء من مصر طبيبًا مع عشيقتيه وحبيبته، جاء متفقًا بصورة غير مباشرة مع (نرجس) الممرضة اللعوب التي لا تتراجع عن مضاجعته في الوقت الذي يريد، ومع الدكتورة (ماجدة) التي لا ترى في العلاقة معه مصدرها الحب، وإنما لتبادل المتعة المؤقتة شريطة الا يتجه هو إلى غيرها، ومع حبيبته (نهى) التي كان حبها له لا يقاس ولا يقارن على الرغم من نزواته ومغامراته وسلوكاته مع بعض الممرضات والنساء.
وفي الوقت الذي يرى الإنسان العربي أهمية العراق تاريخيا وجغرافيا وحضاريا واقتصاديا، وعروبيا، والذهاب له والدفاع عن حياضه عند البعض واجب عروبي وقومي، فإن الكاتبة قد أوضحت بعض أسباب سفر المصريين إلى العراق، وأعطت أمثلة على ما ذهبت إليه، فالدكتورة (نهى) ذهبت إلى العراق رغبة في تحسين وضعها المادي الذي لم يعد يتغير إلى الأفضل وهي في مصر، والدكتورة (ماجدة) قررت الذهاب هروبًا من محنتها الصحية ومرضها الذي أوهنها وقلل من إحساسها بأهمية الحياة، فهي مصابة بمرض السرطان، لذلك كانت تحلم بأن تموت شهيدة على أرض العراق بدلا من الموت نتيجة المرض، أما الدكتورة (أمنية) التي كانت هي الراوية في سرد الأحداث والشخصية الرئيسة لها فكان دافعها هو الخروج من حزنها، والهروب من كآبتها التي وضعها القدر فيها بعد موت أخيها وزوجها، وإذا كانت هذه طموحات وآمال بعضهم فالمؤكد أن الدكتور سالم فكر في السفر إلى العراق من أجل أن يعطي لنفسه مساحة أكبر من الحرية في الانتقال بين عشيقتيه وحبيبته لعدم وجود الرقيب الاجتماعي والعائلي بالنسبة إليه، ولكن إذا فرضنا أن الأسباب التي طرحتها الكاتبة لها من الصحة في واقع حياة هؤلاء، فإن هذا يشير إلى التفكير المحنط الذي يدور حول المصالح الشخصية والأحلام الزائفة، وليست لأن هؤلاء يرغبون في الدفاع عن وطن عربي بحكم القومية التي تشربوها وتشربتهم منذ تأكيدها في معظم الأدبيات الدراسية والثقافية والأدبية أن الأقطار العربية هي أقطار مغلفة بالقومية العربية التي تكشفت في الدفاع عن فلسطين والحروب العربية الإسرائيلية منذ .1948
ولكن الظروف والأقدار والمحن تعلم المرء وتفرض عليه إعادة التفكير والبناء كلما دخل في محنة ما، فهذا الطبيب الذي يأتي نزقًا شغوفًا بممارسة الجنس يكتشف أنه يطلب التغيير في حياته، بعد فترة من الزمن وهو في خضم العمل الطبي والعلاجي، والتضميد والمتابعة متجهًا نحو الشباب العراقيين المقاومين للاحتلال الأجنبي، والمقاومين لبطش الإنجليز، تحوله الرواية إلى شخص آخر، شخص يحاول الوقوف مع الشباب العراقيين ويقوم بتدريبهم على الإسعافات الأولية حتى يستطيعوا مواجهة أي أخطار نتيجة القصف والتدمير، كما حاول الشباب أنفسهم تدريب الطبيب على طريقة مسك السلاح والدفاع عن نفسه في حالة تعرضه لأي مكروه، وبنتيجة القصف المستمر من القوات الأجنبية على العراق والبصرة على وجه الخصوص بدأ الحقد يدب في كل أواصر تفكيره ومفاصل جسده تجاه المحتل، وصولاً إلى قناعة بأن الموت بالنسبة إليه لم يعد خوفًا أو ماردًا يجب الهروب منه، بل اعتبره دفاعًا عن أرض العراق الذي هو دفاع عن جزء من الأرض العربية.
ومن هنا بدأ التغير يطرأ على الدكتور سالم الذي لم يظهر على سلوكه الذي عزز لديه الانتماء العربي، وإنما برز في تغير نظرته تجاه علاقته بالمرأة التي سلبت هواجسه وأخلته في الكثير من الملذات، وأمن أكثر بتمسكه الديني حيث بات رجلاً متدينًا ملتزمًا، وأكد طبيعة فكره الوحدوي، فيقول: »لن أترك هذه الأرض حتى أموت أو يكتب لنا النصر - ص112« ويقصد هنا التخلص من القوات الأجنبية، كما لم تعد الكماليات ضمن مخططاته وسلوكاته اليومية، وتكشف الرواية أن هذا التغير جاء من خلال التغير في لغته وجمله الحوارية والإرشادية، وبخاصة كلما رأى بعينيه قصف الدول الأجنبية على العراق، وتحديدًا البصرة كونه موجودًا في احد مستشفياتها.
وفي الوقت الذي جاءت مجموعة من الأسباب الخاصة والشخصية وراء مجيء هؤلاء الأطباء والممرضات إلى العراق فإن جميعهم أكدوا مواقفهم الإنسانية، إذ تشير الكاتبة إلى أن القصف البريطاني على البصرة، وعلى المستشفيات بشكل خاص أودى بالكثير من الشباب والأطفال ولم يجدوا إلا ساحة المستشفى لتكون مقبرة لهذه الأجساد التي واراها التراب وهي مخضبة بدمائها، وقد أشارت الرواية إلى البعد الإنساني الذي تمسك به الأطباء المصريون والدفاع عنه من خلال عملهم حتى الموت، لذلك جاء استشهاد الدكتورة ماجدة بقصف بريطاني على سكن المستشفى، وترحل الممرضة نرجس مع أحد الرجال العراقيين إلى قريته لتكون زوجة ومربية لأولاده، وتستشهد الدكتورة نهى لينتهي حبها وزواجها العرفي بالدكتور سالم الذي لم يعلنه، واستشهاد الدكتور حسين الذي تزوج الدكتورة أمنية وكانت النية في إعلان الزواج غير أن الموت غيب هذا الإعلان بعد ما تكون جزء منه في أحشائها.
كل هذه الأمور جعل الدكتور سالم ينظر إليها بصورة مختلفة حيث أصر على الزواج من الدكتورة أمنية حتى يحفظ مكانتها وإنسانيتها ويأخذ الطفل اسمه بعد الولادة، ويهدأ الجميع بعد ما كشف لهم أن الضابط الإنجليزي المصاب الذي أخذته الدكتورة هند بسيارة الإسعاف لم يكن عدوا، بل من المقاومة، قال الدكتور سالم للفتية الغاضبين: «إن هذا الشاب كان قد ترك وحدته وانضم لرجال المقاومة وأصيب معهم - ص109»، وفي البعد الذي توضحه الرواية على الانتماء العربي وتأكيده ترى أن هناك من لم يكونوا عربًا لديهم الإحساس بالحسرة والألم لما يعانيه الشعب العراقي وقد بان في توجه الضابط الإنجليزي. وفي البعد الآخر نرى أن العلاقات غير السوية التي كانت تمارس بين بعض الممتهنين مهنة الطب والتمريض لا تتوافق مع طبيعة العمل المهني والإنساني.
ومن اللافت أن هذا العمل الصغير جدا حاول أن يضعنا أمام تلك الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات التي كانت تعاني الأمرين، تعاني وحدتها أو مرضها أو محاولة المزيد من تطلعها، وعانت أيضًا وجودها في البصرة التي لم يهدأ القصف فيها، وعانت الكثير لأن مصيرها مجهول في ظل الأوضاع غير الطبيعية آنذاك، لذلك حاول غلاف الرواية فتح باب الدخول إلى العلم بعد ما وضع على فضائه لوحة تحتوي على قلب فيه صورتان: صورة امرأة، وصورة رجل، هذا القلب الذي جمع الاثنين يؤكد الحالة الإنسانية والاجتماعية والبيولوجية لهما، ومهما يكون من اضطراب وعدم استقرار للحياة، فإن هذا القلب الذي حماهما يخرج بهما من خضم الحرب والقصف العسكري.
ولأن الروائية هي في الأصل مهندسة فسعت بما تملكه من عمل مهني وإبداعي في محورة الغلاف وكذلك العنوان (أيام الحب والموت) الذي اتصف بالثنائية الضدية، فإذا كان الحب يخرج من خطوات الدمار والحرب والقصف فإن الكاتبة جعلت مفردة الحب هي الأولى ثم الموت ليس من قبيل أن الحب يأتي بالشكل التدريجي الطبيعي، وإنما نعتقد أنها قصدت بذلك الحب هو الأساس في الحياة حتى في الموت، الحب يكمن في العلاقات العاطفية والعلاقات الإنسانية والاجتماعية والأخوية، وكذلك العلاقة بين الدنيا والآخرة، وبين الذات والخلود. فالموت هو حالة واحدة لا غير، بعدها يهمد الجسد، وتتوقف الروح مهما تعددت أشكال هذا الموت وطرائقه.