الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي


شكرا سيلان.. تعاليم الروح الطاهرة

تاريخ النشر : السبت ٩ يونيو ٢٠١٢



في ليلة صيفية نادرة وربما هي الأولى من نوعها في حياتي.. تلقيت دعوة كريمة من مركز الشيخ ابراهيم للدراسات والبحوث لحضور احتفالية الجالية السيلانية (السيريلانكية) الصديقة في البحرين وذلك لعرض فيلم سينمائي سيريلانكي بعنوان (مطفئو النيران).. وهو الفيلم الوحيد في مسيرة حياتي الثقافية كلها الذي تشرفت بمشاهدته الممتعة في تلك الليلة الجميلة من ليلة السبت بتاريخ 26/5/..2012
اعترفُ لكم بداية بان اندفاعي وحماسي لحضور هذه الاحتفالية كان في الاساس من باب التعرف واكتشاف طبيعة هذه الفعالية الثقافية التي لم اعهدها من قبل. وكذلك لسبر اعماق البعد الفكري والوجداني لهذا الشعب السيلاني العريق المشهور بتاريخه الضارب في العمق. فنحن أهل الخليج كان أجدادنا القدماء يرحلون في السفن الخشبية الضخمة إلى سيلان لصيد اللؤلؤ في بحارها الغنية بالخيرات العظيمة. وسيلان مرتبطة في ذهني منذ دراستي في الصفوف الثانوية منذ ما يقرب من اربعين عاما عندما درست سيرة الشاعر المصري الكبير والمجدد في الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي الذي نفي من بلاده إلى جزيرة سرنديب، وهي الاسم العربي القديم لسيرلانكا أو سيلان حاليا.
الحضور كان لافتا وجميلا من الجالية السيلانية الطيبة الأخلاق، وتخللتها كلمات حميمية حارة وصادقة. إلا أن الحضور من الجانب البحريني كان قليلا نسبيا مقارنة بالحفلات التي تقيمها الفرق العربية والغربية. وربما هذا مرده إلى أن الجمهور البحريني ربما لا يعلم تحديدا الإمكانيات الفنية والثقافية والإبداعية للجاليات الآسيوية المقيمة في البحرين مثل دول الهند وباكستان والسيلان وبنجلاديش. حيث الذي نعلمه عنهم هو انهماكهم في العمل المهني والفني والتقني والنشاط التجاري. ولاشك انها أعمال عظيمة وجليلة ساهمت في بناء حضارتنا المدنية الحديثة. ولم نكن نعلم أن لهم جانبا ابداعيا ثقافيا متميزا وراقيا إلا ما ندر. رغم اننا على معرفة أكيدة ويقين ثابت أن هذه الدول الكبيرة تزخر بأعظم الأدباء والمفكرين والشعراء والفنانين العالميين من أمثال شاعر الهند العظيم طاغور الحائز على جائزة نوبل، وايضا الشاعر الباكستاني الكبير محمد اقبال وغيرهما من العظماء المشهورين الخالدين في التاريخ.
وبعد ذلك ومع دقات قلوبنا المتسارعة لرؤية هذا الفيلم الأخاذ الذي عرفت من خلال الكلمات التي القيت، إنه قد حصد جوائز عالمية كبيرة وهو مصنف من ضمن الأفلام الثقافية ذات المستوى المتميز. وفعلا بدأت أحس بمستواه التقني الفني الكبير من أول ثوان لمشهد الغابات الجميلة الشاهقة التي تشتهر بها سيلان مع موسيقى تهز أعماقك وتوقظ احساسك بدفئها وجمالها وروعتها ولتبدأ القصة الرائعة تروى عن طريق ابطالها الذين أدوا الأدوار الصعبة بمهارة وعفوية وصدق بعيدا عن المبالغة والتهويل والخوارق والابتذال التي كانت تشتهر بها تلك الافلام الآسيوية التي تعودنا مشاهدتها في طفولتنا.
القصة باختصار كانت عبارة عن صياد جشع يخترق القوانين التي تدعوه للمحافظة على الغابات والحيوانات الكثيرة التي تعيش فيها، والتي تعد هذه الطبيعة الكونية الخلابة للغابة هي بمثابة التوازن والاستمرارية لحياتنا على كوكب الارض، فالحياة تفنى إذا ما قام الإنسان الجائر الطامع بالقضاء على حياة المخلوقات والكائنات فيها.
يتصدى للصياد راهبٌ زاهد من اتباع المذهب البوذي المعروف بقيمه وتسامحه وبتعاليمه المبشرة بنقاء الروح الانسانية وتطهيرها من نوازع الشر والدناسة والخسة، وإحلال مكانها قيم الخير والمحبة والتعايش السلمي وعدم الايذاء لأي مخلوق أو كائن من مخلوقات الله العظيمة الكثيرة. بعد صراعات مريرة عبر أحداث الفيلم يتمكن الراهب من توصيل رسالته السامية عبر تطهير روح ذلك الصياد الشريرة المليئة بالطمع والكراهية وأن يحوله إلى إنسان سوي محب للبشرية والكائنات ولتلك الغابة الجميلة. صحيح أن الفيلم كان يبدو إنه موجه إلى الفتية الصغار وبالذات المراهقين منهم، لأن هذه الفئة بالذات هي التي تتأثر بالأفكار والنوازع غير السوية بسهولة ويسر وذلك لحب هؤلاء الفتية للمغامرة والاندفاع المهووس غير المدروس بالبحث عن الملذات الجسدية والنشوة والكسب الحرام. فأنا كنتُ على ثقة من أن أي فتى سيشاهد هذا الفيلم لابد أنه سيترك في نفسة المرهفة الحساسة النقية الكثير من قيم الجمال والحب والتسامح ويطهر روحه من أي أفكار سوداء مدمرة تدعوه إلى الخطيئة والإجرام والاعتداء والإثم. لأن الفيلم كان متقناً في إخراجه القوي ومقنعا في تسلسل افكاره الجريئة ومنطقيا في سرد احداثه المحكمة ورفيعا وراقيا في مستواه الثقافي والفكري والابداعي. وكما أن الفيلم بكل تأكيد كان له تأثير واضح وجلي في نفوسنا نحن المتقدمين في العمر أيضا، فقد ذكرنا وأيقظ فينا الكثير من الأمور التي كانت غائبة عن حياتنا عبر مناقشة الأفكار العديدة التي وردت في سياق القصة الرائعة المشوقة منها مفاهيم التعامل بالطيبة والاخلاق والحب مع أيٍ كان من البشر، وكذلك ناقش الفيلم الفساد المستشري الذي يمارسه المتنفذون في الاستيلاء على خيرات الغابة وقوت الفقراء من الفلاحين والكادحين، كقيام المعتمد البريطاني الحاكم أيام استعمارهم للجزيرة بقتل الفيلة طمعاً في أسنانها العاجية الثمينة، بالتآمر مع كبار الانتهازيين الجشعين من القائمين على شئون الغابة من المواطنين الخونة المرتزقة ومن المؤلم المبكي أن الحاكم البريطاني كان هو نفسه الذي كان يمنع الصيد في الغابة ولا يطبقه على نفسه الفاسدة المنتهكة لخيرات الغابة وسكانها المساكين المعوزين من شدة فقرهم وبؤسهم. وكما نجد أن الحكمة البالغة المنطلقة من أفعال وأقوال المصلح الراهب الذي استطاع أن يحول النار الرهيبة التي أشعلها الصياد الجشع في الغابة حقداً وشراً وانتقاماً لتعليمات الراهب الرشيدة، إلى مثال للتعاون والكفاح المستميت بين سكان الغابة من أجل إطفاء تلك النيران التي كادت أن تقضي على الغابة الغناء البديعة. وكأنه أراد بإطفائه لتكن النيران الحاقدة هي اطفاء للروح الشريرة النجسة الكامنة في أعماقنا السحيقة، فكانت تلك الليلة الرائعة حقا كأنها تطهيراً لأرواحنا الدنية بحب الملذات والشهوات والآثام.
ليت أن تستمر هذه الابداعات الثقافية الرائعة لهذه الجاليات المثقفة لإيصال شعاع أنوارها الهادية إلى كل القلوب المحبة الداعية إلى الخير. وان تستثمر الجاليات الشقيقة صالة مركز الشيخ ابراهيم الفائقة الجمال والتصميم وبإمكانياتها التقنية العالية في مدينة المحرق الهادئة في التواصل المشرق مع الشعب البحريني العاشق للفن والجمال والثقافة.