الثقافي
الأرضُ تحت الأنقاضِ
مشاهدٌ روائيةٌ من غزو (20)
تاريخ النشر : السبت ٩ يونيو ٢٠١٢
الأستاذ قيسُ المثقف الكويتي المنظرُ للوحدة العربية يخرج من بين الأنقاض ليجد بلده محتلا، والفوضى في كل مكان، والتعذيب شاملا، وأسرته محطمة ويقاومه ويتداخل معه العراقي الضابط المُعذب المناضل عبدالجبار المختار.
31
تغلغلتْ سيارةُ عبدالرحمن في الظلام، لم يركب سيارة مرسيدس أبداً. فخمة وناعمة وتنزلق في جسد الشارع المغتصبِ برهافةِ سكين.
وبغتة تنهمرُ أضواءٌ حاشدة حوله، وتنتزعهُ أيدٍ غليظة من مقعده وتحذفه على الأرض، ثم تضعه في صندوق سيارة، مقيد اليدين، لا يكاد يتنفس بين الخرق والعلب الفارغة.
ذُهل. السحناتُ غريبة، اللهجةُ لا تُطمئن، الرصاصاتُ ستثقب جسده، ولن تهم جنسية القاتل، فدمهُ مطلوبٌ لجهات عدة، وهو جاهزٌ الآن بعد أن ذاق لحظة حب واحدة في الحياة، ورأسه يضربُ سقفَ الحديد، بالعجلات السائرة في أرض غير مبلطة، كعمره، كالزمنِ الغامض المرعبِ الذي عاشه، كرأسهِ الذي أكل من بين أشداق التماسيح، وسهر في أوكار الضباع ونام بعينٍ واحدة، لكن لماذا يستسلم بهذه السهولة، ولا ينصت إلى هذا الصمت الغريب بين الخاطفين، ويسترجعُ ثيابَهم البيضاء، وقد ذاب العراقيون في الكويتيين وحدةً وسحلاً؟ ويدهش من معرفتهم بدربه، الذي يغيره كل مرة، ولسيارته المسروقة وسحنته المتوارية في الظلام، ويحسّ ان السيارة قد وصلت مثل عمره الذي وصل إلى نهايته في لقطة لم يتوقعها أبداً.
قادوه إلى عمارة في منطقة ساكنة، جروه إلى شقة شبه خالية، ربطوه على كرسي، فبدأ يحدق بوضوح في خاطفيه، ثيابٌ وغترٌ لم تُوضع على الرأس جيداً وسحناتٌ مخيفة. لو كانوا يريدون قتله لقتلوه، راح أحدهم يستجوبه، قاموسُ الشتائم الفظيعة مجلوبٌ من المجاري الملوثة التي يعرفها، وهذه الوجوه البدوية الشرسة لا تضحي، لعلهم قد خلقوا مقاومة مستأجرة أيضاً، قال الرجل:
- نريدُ معلومات كاملة عن موقعك العسكري يا زبالة احتلالية.
حين ردد ذلك كان قلبه قد استراح، رغم ان جسده تحول إلى مطفأة لسجائرهم، أيقن انهم ليسوا كويتيين، فكيف شكوا في أمره، ولماذا لم يقتلوه؟ ماذا أحدث من خطأ جسيم؟ كيف تسربوا إلى عروقه المتوارية تحت الرماد؟ هل التقطوا شعيرات روحه؟ كم ثرثر وعاد لحزبه!
تركوهُ في الظلمةِ والجوع والعطش والحر، وكرة من القماش في فمه، تنزلق خيوطُها وترابُها في فمه وأمعائه، وتغدو رائحتُها الكريهة تفجرُ الغثيانَ الذي لا يتسرب خارجه، أصوات خافتة تأتي من الشارع، لهجاتٌ عربية وزحام في الظهيرة، وتدب الحياةُ في بعض الشقق المجاورة، جسدهُ المصلوبُ وحروقهُ وقيؤه تمنعه من الإنصات، والآلام الكثيفة تهدأ قليلاً، ولا يعرف الآن ماذا حدث لسلمى بعد أن أطلق سراحها، لم يكن العمل الوحيد الطيب الذي خلقه، في بحر من الكراهية، كأنه دب في بياته الشتوي الشرير الطويل، لا يريد الآن سوى أن يتحرر من الحبال والبذلة، ويقذف بنفسه في الحشود الجديدة، وهو يصغي إلى البيانات من خلف الخطوط، والوعود الكثيرة. أخذَ دبيبُ الشارع يصلُ إليه. وجسده صار يتخثر، والظلمة تستمر وتتوغل في عقله، تنشئُ أشباحاً، والجوعُ صار يتجول في عظامه، كأن ضوءًا خافتاً يقترب من عينيه، ولهباً يحرقُ شفتيه، والقيءُ يتدفق خارجاً والصفعات تنهال عليه، صرخة مدوية تقلعه من على الكرسي:
- نريد كل التفاصيل عن وضع الأستاذ قيس.
البِذَلُ غريبة، والوجوهُ بعيدة، والظلماتُ مستمرة، وثمة صراخٌ جديد أغرب:
- هل يتعاون معكم؟
يسلطون عليه تيارا كهربائيا يهزه ويدفق كلمات من الهذيان، لا يعرف ماذا يقول، غير أنه يرى أبناء أخته يركضون نحوه، وحشود المدرعات تغرق في بحيرة من النار في الأحواز، وقيس ولؤي ساكنان على التراب ينتظران الرصاص، والأمُ تغرق في البرميل، وهو يغتصبُ الابنة، ورأس سلمى مشلوخ، وتدور الظلمات والأنوار، ولم تعد ثمة أحشاء داخله، ويحس بالمرئيات تنطفئ.
بقعٌ وامضة من النور. وجهُ قيس يحدق به. تاج حمورابي يشتعل على رأسه، أقدامهم تجري في البرية، ثمة أحذية دامية متناثرة، سلمى تحضنه وتصرخ، تهمس بلذة، قيس وابنته يركضان فوق الرمال المشتعلة، يهمس وجهُ العريف خضر: سيدي تم شواء مريم، هل ثمة أوامر أخرى؟ صراخٌ عنيفٌ يأتي من الوراء، بقعُ ضوء تتسلط على عينيه.
ينتبه للظلام، جسمهُ يتمزق ويطلع منه، الجلسة المتخشبة تيـبسه، يهز الكرسي ويحاول أن يتحرك، يضعف، يهذي، يدخل في حلم غريب، أشجار وفئران وأسماك مقلية وأرز أبيض، والعريفُ خضر يقطع الجثة المشوية فوق ((التاوه)) ويقدم له قطعة، ويصحو شاعراً ببطنه يتمزق، وحنجرته تتشقق.
ثم اندفع ضوء مبهر، شمس تُقذف في عينيه، وتتقدم أجسام عملاقة، وتتحسس حباله وتقطعها، وتنتفض قطعُ جسدهِ منتشية، هم ذاتهم البدو المسلحون، يبللون شفتيه بشعرة سائل، ويشعر بكثافة لحيته وأشواكها، تتحرر يداه، فتلمان جسمه بقوة وراحة عميقة، يحرق أحدهم سيجارة قرب فمه فتشعلُ لحيته، يقول:
- يا رفيق لقد أثبت حزبيتك وإخلاصك.
يطفئُ النارَ ولا يتكلم.