الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


الاستعمارُ والديمقراطية (1-2)

تاريخ النشر : الأحد ١٠ يونيو ٢٠١٢

عبدالله خليفة



لابد من فهمِ أعمق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشوء الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية) بعضَ هذه السمات الجوهرية وعبرها حدّد تطورَ البشرية، مثل تبدل الرأسمالية الغربية من مرحلةِ المنافسة إلى مرحلة الاحتكار، ومن مرحلة الديمقراطية إلى مرحلة الدكتاتورية العالمية، واقتسام العالم بين الدول الاستعمارية الغربية، واقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين المختلفة المتصارعة، وأن الاستعمار هو طفيلية الرأسمالية وتعفنها، والاستعمار هو تتويجٌ للتطور الغربي بين القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وحتى القرن الراهن.
ولينين يعيد ذلك إلى دور وأهمية الجوانب التقنية أيضاً، كتبدل وسائل المواصلات وتصاعد أهمية القطارات وبالتالي علينا أن ندخل كل شبكة المواصلات والاتصالات الشبكية الواسعة التي حدثت حتى وقتنا الراهن.
ولينين يستنتج من الجوانب الاقتصادية والتقنية المعزولة عن اللوحة العامة استنتاجات كبيرةً:
(وهذا الحاصل يُظهرُ أن الحروبَ الإمبريالية هي أمرٌ محتوم إطلاقاً على هذا الأساس الاقتصادي طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكاً خاصاً(طالما بقيت علاقات الإنتاج الرأسمالية، علاقات المُلكية الخاصة الرأسمالية مسيطرة).
كما أنه يوسعُ هذه الاستنتاجات على نحوٍ أخطر:
(لقد غدت البورجوازية في العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في ظل جميع النظم ملكيةً كانت أم جمهورية، «ديمقراطية»كانتْ أم فاشية).
يضعُ لينين العالمَ بين خندقين، الأول هو العالمُ الرأسمالي المهيمن عبر الدول الغربية الذي هو معاد للديمقراطية، والعالم الجديد الوليد، العالم الاشتراكي، أساس الديمقراطية الحقيقية في تصوره.
ولهذا فهو يرى أن المجتمعات الغربية بين فترتين فترة رأسمالية تنافسية ظهرت فيها أشكالٌ تنويرية ديمقراطية، ثم جاءت الفترةُ الاستعماريةُ فسُحقت الديمقراطية، ولهذا لا تميّزَ بين التيارات، ولا يمكن قيام تحالفات بين القوى اليسارية والبرجوازية اليمينية، ومن هنا تغدو أهمية الأحزاب الشيوعية، التي هي حصيلة هذا الفهم حسب تصوره، والتي يقومُ دورها على هزيمة الرأسمالية في الغرب فيما الشرقُ يتجه للاشتراكية.
تقيم هذه الرؤيةُ استقطابيةً كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الشر والخير، بين الماضي والمستقبل، فهي تعسكرُ البشريةَ عسكرةً ثنائيةً استقطابية.
نلاحظُ هذا التعميمَ وهو يَخرقُ الموضوعيةَ في فهم العالم الرأسمالي، فمن خلال سمات تنامي الاحتكارات وهيمنة رأس المال المالي على بعض القمم الاقتصادية السياسية، وتصدير رأس المال بدلاً من تصدير البضائع، يصل إلى استنتاجاته السياسية النظرية الجازمة الكلية.
إن هذه السمات موجودةٌ حقاً، ولكن هناك قطاعاتٌ كبيرةٌ لا تهيمن عليها الاحتكارات، وجزرُ السيطرة في قلب المدن الكبرى موجودة وممتدة في شبكات البناء الفوقي، لكن توجد كذلك معارضة متعددة من أقسام برجوازيات أصغر وبرجوازيات دنيا، ناهيك بطبيعة الحال عن العمال، الذين هم أيضاً يناضلون ضد الرأسمالية ويتحول بعضُهم إليها كذلك!
كذلك فإنه لا يمكن الحديث عن كون العالم الشرقي المستغلّ من قبل الاستعمار هو احتياطي جاهز للاشتراكية، حيث حددَ لينين المصيرَ الكامنَ المجهول في وصفةٍ طبية مُسبّقة، من دون أن ينتهي مصيرَ العالم الغربي الرأسمالي في تطور استعماري وحيد لا غير فيه ولا احتمالات متعددة له. فالعالمُ الغربي مليءٌ بالاحتمالات مثله مثل العالم الشرقي التابع.
لكن الوصول إلى هذا التعميمات الكُليةِ بين غربٍ فاسد إستعماري وشرقٍ ناهضٍ نحو الاشتراكية، يكونُ رؤيةً غيرَ جدلية، ورؤيةً غيرَ ماديةٍ تاريخية، فهي رؤية أحادية ميكانيكية، تقوم على نقائض مُعمَّمة مجردةٍ في جهتين متقابلتين. وهي ثنائيةُ الإلهِ والشيطان الدينية الغائرة.
وفي العمل السياسي ينتجُ عن ذلك جملةً من المعالم والمشكلات الهائلة، فالتدرجات والألوانُ الديمقراطية الممكنةُ لدى الأقسام البرجوازية الكبيرة والأقل منها، تُزالُ من أجل لونٍ واحد.
فتغدو الشيوعيةُ هي اللونُ الأبيضُ الذي يجب أن يسود اللوحة في الغرب والشرق، فتظهر الأحزاب المطلقة القادرة على محو الرأسمالية في عقر دارها أو في العالم المتخلف الناهض اشتراكيا حتمياً.
تغدو في الغرب نضالاً فكرياً سياسياً يلغي مشروعية الرأسمالية ووجودها المتنوع، ويصير في الشرق دولةً اشتراكية أو معسكراً اشتراكيا، أو أحزاباً تحملُ المشروع وتحققه.
صارت البشرية بكل تضاريسها المعقدة المركبة ومراحل نموها المختلفة، وتباينها بين رأسمالية وخاصة سائدة ومشروع رأسمالية حكومية شرقية طالعة، في خطين أسود أو أبيض، رأسمالي أو شيوعي وليس ثمة طريق آخر!