الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

الذكاء الروحي و«الربيع العربي»

تاريخ النشر : الأحد ١٠ يونيو ٢٠١٢



عدم استيعاب وفهم الاختلاف واحترامه كان سببا مهما للخلاف في تاريخ البشرية، فالاختلاف في لون البشرة أدى إلى التفرقة العرقية، واختلاف الرأي الديني والمذهبي أدى إلى الخلافات الطائفية، والاختلاف العقدي أدى إلى الخلافات العقدية، والاختلاف القومي أدى إلى الاختلافات القومية. وعاشت المجتمعات البشرية عبر العصور هذه الخلافات في الغرب والشرق، ودفعت شعوبها ثمنا غاليا بالعبودية والاستعمار والنازية، والحروب الدينية والطائفية، بالإضافة لحروب القرن العشرين المدمرة ولننتهي في بدايات القرن الحادي والعشرين بانتفاضة العولمة التي بدأت من شوارع نيويورك وتوسعت للمظاهرات الأوروبية وحرائق لندن ولتمتد إلى الشرق الأوسط ليتفاءل البعض بتسميتها ثورات الربيع العربي.
ومع هذه التطورات الجديدة وبالإضافة لتحديات العولمة المعقدة، بدأ بعض دول الغرب تعي خطورة الخلاف الذي تعيشه ديمقراطيتها اليوم، وخاصة بعد أن برزت الحركات السياسية المتطرفة، وبعد أن سيطرت لوبيات المال على تشريعات برلماناتها، وخاصة بعد أن ركزت الشركات العملاقة في الأرباح ربع السنوية القصيرة الأمد، وتناست خطط التنمية البشرية الطويلة الأمد وأهمية الإنسان وسعادته في تطويرها، لتتقلص الطبقة المتوسطة وتزداد نسب البطالة. كما بدأ بعض مفكري الغرب مراجعة التطبيقات العملية للديمقراطية الليبرالية الغربية وتساءلوا عن كيفية تطويرها في الألفية الثالثة ودور التكنولوجيا الحديثة في ذلك والصيغ الجديدة التي سـتأخذها في الألفية الثالثة.
كما بدأ الشعب الأمريكي يعي خطورة هذه الخلافات وخاصة بعد أن استنفدت حروب أمريكا المتكررة والفاشلة في الشرق الأوسط طاقتها الأمنية والمالية، بل تنبأ بعض مفكريها هذه المخاوف قبل سنوات عديدة، حيث علق كليد بريسوتز في مجلة جلوبال بقوله: «أمريكا ليست واعية اليوم، وبسعادة، أنه في المستقبل القريب لن يكون من الحكمة التفكير في أهداف قوتها، وذلك لأنه لن يكون هناك أي قوة لتحتاج إليها أهداف. نعم ستكون هناك مظاهر قوة، فستبقى القوات الأمريكية في اليابان وكوريا، وسيتجول الأسطول السابع في غرب الباسفيك، وسيستمر تسعير النفط بالدولار، ولكن قوتها الحقيقية ستتبخر. وقد أزالت الصين الولايات المتحدة كأكبر سوق عالمية، وأخذت مواقعها في العديد من الصناعات الرئيسية.. ويصل النقص في الميزانية الأمريكية إلى 7% من الإنتاج الاجمالي المحلي، وتزداد الديون التي تستلفها إلى نحو ألف مليار دولار سنويا. وخلال العشر السنوات القادمة ستتساوى التزامات ديونها مع الإنتاج الإجمالي المحلي السنوي. كما يعتمد الاقتصاد الأمريكي كلية على الديون المستمرة التي يستلفها من دول آسيا ومنطقة الخليج الغنية بالنفط».
وقد بدأت الولايات المتحدة مراجعة خلافاتها الدولية بجدية وتحاول الوصول إلى حلول براجماتية لها على المستوى الدولي، حيث بدأت الصحافة التحدث عن اتفاق غربي إيراني قريب حول الخلافات النووية والإقليمية المعلقة، ويذكرني ذلك بمقال كتبه الصحفي الأمريكي وليام بفاف بجريدة اليابان تايمز قبل سنوات عن حكمة التعامل مع الخلافات يقول فيه: «لنتخيل أن العلاقات الإيرانية الأمريكية أخذت منحى آخر بعد الثورة الإيرانية، ولنحلم حينما حوصرت السفارة الأمريكية في طهران في بداية الثمانينيات، حملت واشنطن مسئولية الخطف الحكومة الإيرانية بمخالفتها القوانين الدولية، وأعلنت رسميا الحرب على طهران. ثم حجزت الإيرانيين الموجودين في بلادها، وطلبت إلى الصليب الدولي العمل لتبادل الأسرى. ولنفترض بعدها، تعترف الحكومة الأمريكية بحكومة طهران الجديدة، وتعتبر ثورة الخميني قرارا شعبيا داخليا، وتحل خلافاتها المعلقة من خلال محكمة العدل الدولية، فتكون قد تجنبت الحكومة الأمريكية المعضلة النووية الإيرانية، ولما حدثت الحرب العراقية الإيرانية ولا الغزو الأمريكي للعراق. ولنتصور أن الصداقة الأمريكية الإيرانية عادت، فسنستغرب النتائج الايجابية المرافقة لحكمة التصرف». فتصور عزيزي القارئ، لو تعاملنا بخلافاتنا العربية المحلية والإقليمية والدولية في القرن الماضي، بهذه الحكمة، فكيف سيكون حالنا اليوم»؟
ولننتقل لليابان، لنلاحظ كيف استفادت من حكمة تجربة الحرب لاحترام الخلاف للوقاية من الاختلاف، فمثلا نلاحظ المواطن الياباني يزور معبد الشنتو حينما يحتفل بولادة طفله، ويزور الكنيسة حينما يحتفل بزواج ابنته، ويزور معبدا بوذيا حينما يفقد عزيزا. وتستغرب تناغم الفرد الياباني مع ثلاثة من الأديان والعديد من المذاهب المختلفة، وهناك أكثر من مائة وستين معبدا في اليابان ويصل عدد زوار بعض هذه المعابد إلى أكثر من سبعة ملايين زائر سنويا. وترجع عقيدة الشنتو إلى أكثر من ستة وعشرين قرنا، وحينما انتشرت البوذية مع الحضارة الصينية في القرن السادس، تقبلوها كما تقبلوا حضارة الصين واستفادوا منها، كما آمنوا بمقولة بوذا، «لا تؤمنوا بشيء، لا يهم من أين تقرأوه، ولا من قاله، ولو سمعتموه مني، إلا إذا كان يتفق مع منطق العقل والفطرة البشرية».
والسلوك اليومي للفرد الياباني ملتزم بأدب التواصل واحترام الآخرين، وحب الغير والعمل كفريق واحد، وكره الفردية وصدق المعاملة، والتفاني في العمل وإتقانه. فالياباني لا يتكلم عن الدين ولا يهتم كثيرا بطقوس الدين ولا يفرق بين مذهب وآخر بينما يمارس الأخلاقيات الدينية بانضباط.
والسؤال المحير ما السر في أن بعض الأشخاص يتقبلون، بل يحترمون اختلاف غيرهم، ويحاولون أن يتفهموا ويتعلموا من هذا الاختلاف، ويستفيدوا من ايجابياته، كما يقدرونه كثقافة جديدة تغني ثقافة الأم؟ وهل هذا السر يكمن في خبرة مكتسبة أم ميزة موروثة؟ وقد درس العلماء ظاهرة سر تعامل البعض مع الاختلاف بتناغم جميل، ومن خيرة العلماء الذين بحثوا في هذا المجال الأستاذ البريطاني طوني بوزان. فقد درس سلوك الذهن البشري وطريقة تفكيره وأساليب تطويره، كما استطاع أن يطور نظرية الخريطة الذهنية ويتعرف من خلالها كيفية التقاط الذهن للمعلومات وتحليلها وتوجيهها وربطها بالسلوك الإنساني وقراراته.
وقد جمع بوزان دراساته وأبحاثه في كتاب بعنوان: الذكاء الروحي من خلال معرفة الحياة وموقعنا فيها. ويعرف الذكاء الروحي بأنه اختيار الإنسان بين الأنا الذاتية الجسمية والأنا العليا الروحية التي تتفهم الحياة بواقعها المادي وحقائقها غير الملموسة. ووصف ظواهر للذكاء الروحي منها التعرف على النفس من خلال الأنا العليا، وبتفهم الحياة بقانون مسبباتها وتأثير تلك المسببات، أي أن الشخص مسئول عن حياته وتفكيره وعقائده، ولا يستطيع أن يلوم الآخرين لما يعيشه، وأن الإنسان غير مرتبط بالضرورة بنتائج أعماله، أي حينما يؤدي الإنسان عمله بكفاءة، يجب أن يكون مستعدا لتحمل النتائج غير الإيجابية أيضا. وتستعمل أدوات مختلفة لتطوير الذكاء الروحي كالتأمل والتبصر، والصلاة، بالإضافة إلى وعينا للخوف والغضب والتمرين المستمر لنتفهم ما في أفكارنا وعواطفنا وسلوكنا.
ويؤكد العلماء ضرورة أن تكون نظرتنا للذكاء شاملة، أي تبدأ من أسفل هرم الذكاء والمرحلة البدائية منه وهو الذكاء الجسمي، وهو وعينا بمهارة استخدامنا للجسم والمحافظة عليه. والدرجة الثانية في هذا الهرم الذكاء الذهني، وهو درجة دقة قدرتنا على حل معضلات المنطق الكلامية والرياضية. والدرجة الثالثة هي الذكاء العاطفي المتعلق بالسيطرة على عواطفنا في تعاملاتنا، والذكاء الاجتماعي المسئول عن لطف تعاملنا مع الآخرين. وأعلى درجات الهرم من الذكاء هو الذكاء الروحي وهو حكمة الأنا العليا الموجهة بالرحمة والتوازن بين الطمأنينة والأمانين الداخلي والخارجي. ويعتقد العلماء أن الإنسان يحتاج إلى درجة معينة من الذكاء الجسمي والذهني والعاطفي والاجتماعي ليستطيع أن يطور ذكاءه الروحي. وتبدأ هذه الرحلة بمعرفة النفس والإحساس بكيفية التعاطف مع معضلات الآخرين، ويتداخل بعدها الذكاء الروحي والذكاء العاطفي لتطوير بعضهما بعضا. ويشمل الذكاء الروحي الوعي ببواطن النفس والسيطرة عليها، والوعي والإحساس بمشاكل الآخرين، والوعي بالروحانية وتوجيهها بشكل سليم والسيطرة الاجتماعية على النزوات.
ويعقب بوزان فيقول، «إذا كان الذكاء الذهني يتعلق بالتفكير، والذكاء العاطفي بالعواطف، فأن الذكاء الروحي يتعلق بالسؤال عمن نكون، وبدور بصيرة الروح والرحمة في حياتنا وعملنا كأشخاص». وقد اكتشف داناه زوهار وايان مرشال، ذبذبات عصبية بدرجة 40 هرتز على سطح المخ البشري، ويعتقد بعلاقتها بالوعي والعمليات المرتبطة بالذكاء الروحي، ويحدد العلماء خواص الذكاء الروحي بالحكمة وتشمل العلم بمحدودية المعرفة، والصفات المرافقة كالشجاعة والنزاهة وسرعة البصيرة والرحمة وحب الآخرين. ويبرز الذكاء الروحي في التعامل مع الحياة والعمل بشمولية، من خلال الإبداع والتعبير عنه بأشكال مختلفة من الفن. كما أن سرعة بصيرة الإدراك هي جزء من ذكاء اللاوعي وتكملة التفكير المنطقي وإصدار القرارات. وكلما كنا رحيمين بأنفسنا كنا أكثر رحمة بالآخرين، وتتبين الرحمة بالنفس من خلال حبنا لعملنا، اهتمامنا ببدننا وصحتنا، وبالأكل الصحي والرياضة، وتغذية أرواحنا بعلاقات حميمة، والعيش في بيئة آمنة وغير ملوثة، والتسامح مع أنفسنا حينما نخطئ.
والنظرة الشمولية للحياة، تبين أننا كائنات بجسم وذهن ونفس وروح، مترابطة ومرتبة بحيث إن شموليتها تزيد على جمع أجزائها. ومن الضرورة مراعاة الشمولية في التربية، ليتعلم الطفل إيجاد توازن بين أنواع الذكاء المختلفة. كما تنبع صحة الجسم من التئام الروح من مصدر مشترك، فلصحة الجسم نحتاج إلى المعلومة والمهارة لنحافظ على أجسامنا، ولصحة الروح نحتاج إلى التئام أرواحنا بالحب والرحمة والتسامح. كما نحتاج إلى الذكاء الروحي في كل لحظة من حياتنا اليومية لبناء التوازن بين الواقعية والمثالية مع مراعاة قيمنا وأخلاقياتنا المجتمعية والدينية.
والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستهتم ثورات ما سمي «الربيع العربي» بتطوير مفهوم الذكاء الشامل في خطط تطوير التعليم المستقبلية؟ وهل سيمزج الذكاء بأنواعه المختلفة في معضلات خلافية، يناقشها الطلبة ليتعلموا من خلالها طرائق التعامل مع تحديات الخلاف المجتمعية وكيفية الوقاية منها؟ وهل من الممكن أن نتصور نوعية الجيل الذي سينتجه هذا التعليم في الألفية الثالثة إذا ترافق بتطوير مهارات احترام الاختلاف والوقاية من الخلاف؟
* سفير مملكة البحرين في اليابان