الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٤٩٩ - الثلاثاء ١٢ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٢ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


اختزال المصير العراقي في الاختيار بين المالكي أو التقسيم!





من المؤكد لدى المتابعين والمراقبين السياسيين إن السيد نوري المالكي استطاع خلال فترة رئاسته للحكومة العراقية التي امتدت أكثر من ست سنوات أن يفرض هيمنته بشكل كامل من التأسيس لطاقم سلطة حاكمة متكامل عسكريا وسياسيا في ظل وجود عملية سياسية واهنة وفراغ سياسي وغياب وعي داهم وأقطاب سياسية مصنعين ودستور تقسيمي ملغوم ومعد مسبقا وغياب الجيش المهني وبتوافق إقليمي مرهون بدعم وتخطيط الإدارة الأمريكية وأهدافها كقوة إدارة واحتلال مشرعنة.

باستثناء سلطة إقليم كردستان الذي تهيمن عليه الأحزاب الكردية المتآلفة، أصبح تفرد السيد المالكي بالسلطة السمة الواضحة للواقع السياسي وما انتهت إليه العملية السياسية وباعتراف جميع الكتل المشاركة بالعملية السياسية كشركاء يفترض أن يكون لهم دور فاعل في السلطة لكن واقع الحال يشير إلى عكس ذلك فالمالكي يفرض هيمنته على الوزارات الأمنية من ضمنها القيادة العامة للقوات المسلحة ووزارة الدفاع والمخابرات والتعليم والقضاء والإعلام والهيئات ويعين القادة والوكلاء والمديرين بلا رقابة أو حساب بعيدا عن البرلمان وسياسة التوافق للكتل المشاركة بل وصل الحال إلى عدم الرجوع حتى إلى قيادة التحالف الوطني الذي أوصله إلى المنصب وحتى إلى عزوفه عن رأي كتلته وقيادات حزب الدعوة الذي ينتمي إليه ناهيك عن رأي المرجعيات الدينية التي طالما سخرها بلا مبرر دستوري لأغراض دعايته الانتخابية بين مقلديها وأتباعها فيما تثير قراراته وسلوكاته الفردية وتصريحاته أزمات ومواقف لا مبرر لها مع تركيا والسعودية والبحرين على حساب مواقف اصطفاف وتوافق مع إيران ولاية الفقيه الواضح والموثق موقفها بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق وسوريا وإثارة العنف والخطاب الطائفي فيها.

تفاقم حجم الأزمات التي ترتكبها السلطة المالكية ومظاهر تفردها بالقرار برز بشكل واضح بعد اكتمال الانسحاب العسكري الأمريكي المعلن من العراق والإعلام الأمريكي الرسمي وغير الرسمي يتحدث بغزارة مكثفة عن فضائح الفساد المالي والإداري وعن تفاقم النفوذ الإيراني في العراق وخروقاتها العسكرية والأمنية المستمرة فيه ومسؤولية السلطة المالكية المباشرة عنها. وتتبادل سلطة المالكي مع دولة ولاية الفقيه في إيران التنسيق والتعاون على أعلى المستويات حتى وصل الأمر إلى حد الإشهار بقيام مشروع اتحاد بين العراق وإيران فيما تنشط مرجعية الخامنئي على إحكام حالة التوافق بين مكونات التحالف الوطني وعلى إبقاء المالكي في منصبه في كل مرة يتعرض لها بسحب الثقة، على الرغم من تفرده بالقرار في منحى يبتعد عن مواقف الشركاء الآخرين في التحالف.

- السؤال الذي يطرح نفسه، هو ما سرلا تمسك الإدارة الأمريكية ببقاء المالكي في السلطة بتوافق إيراني على الرغم من الاختلاف في الرؤى؟ وما الذي يهدف إليه المالكي وأزماته المفتعلة مع شركائه في النهاية؟

الإدارة الأمريكية التي تشكل محور التخطيط لمستقبل المنطقة العربية ومشروع الشرق الأوسط الجديد تعمل بقناعة وإصرار على تفكيك الهوية والمشروع القومي في المنطقة وتتبنى سياسة التغيير في أنظمتها ومفاهيمها بمبررات الديمقراطية بعد أن أوكلت إلى مجاميع وتنظيمات الإسلام السياسي في الساحة بالقيام بهذه المهمة بضمانات ترتكز على إيجاد قيادات وتنظيمات جديدة في هذا التيار تعهد إليها ادوارا فاعلة في أنظمة الحكم البديلة على أن تتنازل هذه التنظيمات عن جوهر أهدافها المعلنة لعقود من الزمن في أدبياتها وهي العزوف عن إقامة الدولة الإسلامية التي يحكمها القرآن إلى إقامة دول مدنية تؤمن بالديمقراطية وتؤسس للحكم بدساتير مدنية عصرية تنبذ خطاب الجهاد وجاهلية العصر وهي تدرك أنها بهذا الاحتواء الجديد لهذه التنظيمات ستتخلص من واجهات التيار الإسلامي الجهادي المتطرف بالإنابة وستثير هيمنة هذه التنظيمات البديلة صراعا بصبغة طائفية ومذهبية وعرقية كفيلة بإيجاد حالة التقسيم وإيجاد قيادات شمولية ودكتاتوريات بديلة تغرق المنطقة بصراعات تفضي إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات طوائف ومكونات.

ما حدث في العراق بعد الغزو من توافقات وشراكات شكلت سمة وجوهر العملية السياسية البديلة للنظام السابق والحرص على مشاركة الأحزاب الطائفية الدينية والأحزاب الكردية في تقاسم السلطة فيه يتكرر مشهده في أقطار عربية شهدت حراكا وتغييرا يتم احتواؤه لصالح المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة ضمن الإطارنفسه.

قيادات حزب الدعوة حالها حال قيادة الحزب الإسلامي العراقي كانت قد رفضت المشاركة بمؤتمر لندن الذي رتب لغزو العراق تمسكا بأدبيات الحزبين برفض التعاون مع قوات غازية أجنبية، لكن قيادات الحزبين فيما بعد عدلت عن رأيهما بعد المؤتمر بأيام والتحقت بمشروع الغزو واجتمع ممثلو الحزبين بعد المؤتمر في البيت الأبيض مع مخططي الغزو وشاركا بشكل فاعل في إرساء العملية السياسية اللاحقة لتمثيل التيار الإسلامي الطائفي فيها ومن ثم شكلا واجهة التمثيل للشيعة والسنة في معادلة المحاصصة السياسية لاحقا.

هيمنة حزب الدعوة فيما بعد على الساحة والتوافق على تشكيل الحكومة برئاسة المالكي بعد فشل إياد علاوي في إقناع الأطراف لتشكيل الحكومة جاء ضمن تنفيذ هذا المخطط لإيجاد سلطة شمولية ذات سمة دينية طائفية بإرادة أمريكية كما تخطط له وبالتوافق مع نظام ولاية الفقيه في إيران الإسلامية التي تتبنى مفهوم ولاية الفقيه ومسؤوليته بإدارة شؤون أتباع المذهب على أي أرض يوجدون فيها، تعتقد هذه الولاية أن تحقيق حالة توافق بين الأطراف السياسية حالة لا يمكن تجاوزها مهما اختلفت هذه الأطراف برؤاها مبررة ذلك بمصلحة المذهب، وانطلاقا من قاعدة توافق المصالح الأمريكية ومصلحة المذهب تم اختيار المالكي لهذه المهمة ولكونه يدرك المهمات المكلف بها من الأطراف التي توافقت على تنصيبه استطاع المالكي من خلال حالة الفساد الإداري والمالي السائدة وتفاقم واردات النفط المصدر تسخير هذه الحالة للهيمنة على السلطات والتفرد بالقرار وتسييس الجيش والقضاء ويتصرف كما وصفه شركاؤه وكأنه دكتاتور متسلط يثير الأزمات ويقضم بمنافسيه وخصومه بشتى الوسائل والأساليب والاتهامات فيما تستمر حالة الصراع السياسي والعنف والفساد مستشرية وتستمر قوانين ودستور الاحتلال نافذة تؤسس لحالة تقسيم واعدة بسبب التفرد بالسلطة واستغلالها. المزاجية والازدواجية في المواقف وإثارة الأزمات التي تمثل سمة السلطة المالكية لا تعكس حالة مشروع بناء لدولة عصرية وأسبقيات بنائها مثل قضايا الأمن الوطني ومكافحة العنف والفساد وتوفير الخدمات العامة ومستلزمات البنية التحتية ليس لها نصيب أو تطلع لدى المالكي على الرغم من تسلمه الحكومة سنوات عديدة والمالكي ليس موضع اختبار لولائه لهذا الطرف أو ذاك لأن المرحلة التي أوكلت فيها الأمور إليه تتطلب ازدواجية الولاء والسلوك.

الأزمة التي تمر بها العملية السياسية فضحت بشكل واضح زيف السلطة المالكية والفراغ السياسي الذي يعانيه حزب الدعوة بقياداته الحالية التي يديرها المالكي بشكل تسلطي ويسخرها لصالحه، المالكي يعلن تكرارا ومرارا منذ تسلمه السلطة انه ضد الأقلمة والفيدرالية والمفروض إن هذا الموقف مبدئي في فكر الحزب ولكن بمجرد تهديد أطراف الشراكة بسحب الثقة من المالكي، انطلقت مطالبات قياديي الحزب في المحافظات الجنوبية التي تحتل مواقع الإدارة ومجالس المحافظات بالتهديد بالانفصال وقطع العوائد عن السلطة المركزية، ماذا تعني هذه التصريحات؟ أي مشروع وطني هذا الذي يتبناه المالكي وحزبه للأمة بعد ان خطت قيادته بشكل متسارع للتأسيس لحكم الحزب الواحد والشخص الواحد بوسائل غير دستورية وغير مشروعة؟

ماذا تعني اختراقات المالكي لاستقلالية القضاء؟ وماذا يعني اكتظاظ السجون المعلنة والسرية بمئات الألوف من السجناء؟ وماذا يعني الاختراق الفاضح لمبادئ حقوق الإنسان؟ وماذا يعني تشكيل فرق وقيادات عسكرية مسيَّسة غير مهنية تكلف بتنفيذ الواجبات والمهمات التصفوية لصالح سلطة المالكي المتفرد بالقرار؟ وماذا يعني التمادي بعدم إشغال المناصب الوزارية الأمنية والعسكرية في وزارة المالكي الناقصة منذ عامين على تشكيلها بعد أن وعد بإشغالها خلال أيام على الرغم من تفاقم العنف وغياب الأمن؟ ماذا يعني العزوف عن حوار الشركاء لحل الأزمات وتبني أساليب الشراء الرخيص للذمم بالمال العام، حتى وصل سعر شراء التصويت لمنح الثقة بالمالكي لعضو مجلس النواب مليون دولار؟

المالكي وقيادته المتسلطة على حزب الدعوة لا يحمل مشروعا معلنا أو سياسات واضحة تؤسس لدولة وليس هناك من باحث أو متابع لمسيرته قادر على معرفة إلى أين هو ماضٍ في نزعته الطائفية ؟ وفيما إذا كان يسعى إلى تأسيس سلطة لعراق طائفي عربي أو فارسي أو إلى التعجيل بفرض واقع التقسيم والتفرد بحكم إقليم ينفرد فيه بسلطة فردية ديكتاتورية بالتوافق مع النزعات الاستعمارية والطائفية يكون فيها الحاكم على المال والجاه والثروة بغطاء الدين والمذهب ووحدة المسلمين على نهج مشروع تنصيب الإسلام السياسي المعتدل كما هو سائد اليوم بالمنطقة بغطاء الربيع والحراك الذي كثيرا ما يحسبه المالكي انه بدأ بالعراق بقدوم قوات الغزو عام ٢٠٠٣ ويا للعجب لهذا الإسلام!

السيد المالكي يشكك بدستورية سحب الثقة من قبل مجلس النواب كما ينصلا دستورهم المفخخ لكنه مع ائتلاف دولة القانون يبارك فكرة إجراء الاستفتاء الشعبي التي أثارها مقتدى الصدر لسحب الثقة بحكومة ناقصة فاشلة وفاسدة والتي لا يوجد بها نصً دستوري. ترى أي حكومة عتيدة هذه التي ليس لها إنجاز واحد يحسب لها واحتسبت أسوأ حكومة فاشلة لأسوأ دولة في ظلها فساد ودمار تسقط البرلمان والرئاسات ولا يتم إسقاطها أو سحب الثقة منها كما يصرح به ناطقوها وعتاتها. هكذا سلطة فاشلة يُفتى بحرمة تغييرها واستبدالها بنهج علماني مرجعُ التيار الصدري السيد الحائري لا لكفاءتها ونزاهتها ولكن لطائفيتها وصبغتها الدعوية وهي الغارقة بالفساد والعنف بكل سلوكياتها.

قد تكون طموحات أمريكا وإيران ودول إقليمية محيطة ان يكون المالكي آخر رئيس وزراء للعراق كما يصرح به ويهدد قادة حزب المالكي الجدد إن صح أن نسمي عراق ما بعد الاحتلال دولة وكيانا موحدا وهذا يعني ضمنا أن الكتل السياسية المشاركة بالسلطة الحالية المتحكم منها والمستضعف وبذريعة تمثيل الأكراد والشيعة والسنة ظلما وعدوانا تخطط لتقسيم العراق حين تشهر شعار المالكي أو التقسيم. ومما يؤكد ذلك هو قيام جلال الطالباني بتأخير تقديم طلب سحب الثقة من المالكي لحين إرسال وفدين إلى إيران وتركيا للحصول على توافق الدولتين على سحب الثقة ومن المؤكد إن تركيا تقوم هنا وبوضوح بدور الإنابة في الأزمة بسبب انشغال الإدارة الأمريكية بقضية الانتخابات التي تشكل أزمة العراق قضية محورية للتحكم بنتائجها ويتجنب كلا المرشحين والحزبين الجمهوري والديمقراطي المشاركين بعملية الغزو الخوض بنتائجها وعواقبها وبنفس الوقت يكشف موقف جلال الطالباني الأخير زيْف خطاب السيادة الوطنية والاستقلال بالقرار لموضوع سحب الثقة بالحكومة وهو قرار ينبغي أن تكون دوافعه عراقية صرفة لو كانت هذه السلطة تتمتع باستقلالية القرار.

خيار المالكي أو التقسيم الذي يشهر اليوم كحل لأزمة مفتعلة يكشف بوضوح هشاشة القيادات السياسية المصطنعة التي لا تعير للمتطلبات الوطنية ووحدة العراق شأنا ولا تستحي من الاجهار بهذا الخيار ليكون شخص المالكي وبقاؤه مرتبطا بمصير العراق ومستقبلقراءة سريعة لتاريخ العراق ومحاولات اجتياحه من القوى الطامعة به تؤرخ لأحداث دامية ودمار مستهدف مع كل حملة اجتياح وأحداث الغزو الأمريكي والإقليمي للعراق اليوم لا تقل حجما ودمارا عن دمار التتار والمغول ولكن جميع هذه الغزوات لم تؤسس لغياب العراق أو تقسيمه يوما على النقيض من ذلك كان العراقيون ينهضون موحدين أشد بأسا وإصرارا على البناء والصمود، خطط أمريكا وحلفائها في المنطقة ليس لها ضمانات النجاح، مقاومة العراقيين أعطت هذه الإدارة الصهيونية وحزبيها الحاكمين درسا قاسيا لا ينسى بتخبط سياسي فاشل وخسائر جسدية ومادية فادحة، والأمل كبير والبوادر واضحة على فشل الإدارة الأمريكية وعملائها للتأسيس لسلطة دولة عصرية أو استتباب للأمن في العراق. أزمة السلطة القائمة اليوم التي أريد بافتعالها إعادة مشروع التقسيم والفيدرلة المقبور من جديد سينهي كيد صناع هذه الأزمات ويسقطهم بعون الله وسيثبت العراقيون للعالم وللعرب وللقريب والبعيد، أن العراق خالد أشم موحد ومنتصر وسيعود جمجمة إلى العرب ومنارة للإبداع والنهوض.

* كاتب وسياسي عراقي



.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة