الجريدة اليومية الأولى في البحرين


مقال الاستاذ فهمي هويدي


سؤال الدولة العميقة في مصر

تاريخ النشر : الثلاثاء ١٢ يونيو ٢٠١٢

فهمي هويدي



لأن الكثير مما يحدث في مصر الآن يتعذر افتراض البراءة في تفسيره، فإن ذلك يستدعي أكثر من سؤال حول مدى إسهام «الدولة العميقة» فيه.
(1)
سبقني إلى طرح السؤال الصحفي البريطاني البارز روبرت فيسك، حين نشرت له صحيفة «الاندبندنت» في الخامس من الشهر الحالي تحليلا استهله بقوله: هل ظهرت الدولة العميقة على مسرح الأحداث في مصر؟ كان الرجل قد جاء إلى القاهرة وانتابته الحيرة التي عصفت بنا، بحيث لم يجد مفرا من استبعاد احتمال المصادفة في تتابع وقوع العديد من الأحداث. ومن ثم وجد نفسه مدفوعا إلى التساؤل عن وجود دور الدولة «العميقة» فيما جرى ويجري.
ربما كان المصطلح جديدا على قاموس السياسة في مصر لأن النظام المستبد الذي ظل قابضا على السلطة طوال الثلاثين سنة الأخيرة على الأقل لم يكن بحاجة إلى دولة عميقة تحمي مصالح الأطراف المستفيدة منه وتشاغب على الدولة القائمة. ذلك أن سياسة الدولة كانت تخدم تلك المصالح وترعاها. وهو الوضع الذي اختلف بعد الثورة التي تحاول تأسيس نظام جديد يتعارض مع تلك المصالح.
الدولة العميقة ليست اكتشافا جديدا، لان المصطلح متداول في دول عدة، بعضها في أمريكا اللاتينية، ثم انه مشهور وله رنينه الخاص في تركيا بوجه أخص منذ أكثر من نصف قرن. ويقصد به شبكة العملاء الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمي، له مصالحه الواسعة وامتداداته في الداخل والخارج. ونقطة القوة فيه أن عناصره الأساسية لها وجودها في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة، المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية. الأمر الذي يوفر لتلك العناصر فرصة توجيه أنشطة مؤسسات الدولة الرسمية والتأثير في القرار السياسي. وللدولة العميقة وجهان، أحدهما معلن وظاهر يتمثل في رجالها الذين يتبوأون مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة والجيش والبرلمان والنقابات إلى جانب مؤسسات الإعلام ونجوم الفن والرياضة. الوجه الآخر خفي غير معلن يتولى تحريك الأطراف المعنية في مؤسسات الدولة لتنفيذ المخططات المرسومة.
المتواتر في أوساط الباحثين أن المخابرات المركزية الأمريكية هي من غرس بذرة الدولة العميقة في تركيا عام .1952 واستهدفت من ذلك ضمان التحكم في قرارات قيادات الجيش وصناع القرار وغيرهم من السياسيين الكبار في مختلف مواقع وأجهزة السلطة. وبمضي الوقت استشرت الدولة العميقة وتطورت، حتى أصبحت كيانا موازيا للدولة الرسمية، وقادرا على الضغط على الدولة الأخيرة وابتزازها.
يطلقون عليها في تركيا اسم «ارجنكون». وللكلمة رنينها الخاص في الذاكرة الشعبية. إذ تقول الأسطورة أن الصينيين حين هاجموا القبائل التركية أثناء وجودها في وسط آسيا، موطنها الأصلي، فإنهم هزموهم وطاردوهم، بحيث لم يبق من الجنس التركي سوى قلة من الناس احتموا بواد عميق باسم ارجنكون، فتحصنوا فيه وظلوا مختفين بين جنباته سنين عددا.
وبمضي الوقت تكاثروا وضاق بهم المكان ولم يعرفوا كيف يخرجون منه، وحين ظهر في حياتهم الذئب الأغبر فإنه دلهم على طريق الخروج من الوادي، ومن ثم اتيح لهم أن ينفتحوا على العالم ويقيموا دولتهم الكبرى. لذلك أصبح الذئب الأغبر رمزا للقوميين الأتراك، وغدت كلمة ارجنكون رمزا للحفاظ على الهوية وبقاء الجنس، إذ لولاه لاندثر الأتراك ولم يعد لهم وجود. وحين حملت المنظمة ذلك الاسم فإنها أرادت أن توحي للجميع أن رسالتها هي الدفاع عن تركيا ضد كل ما يهددها.
(2)
منذ تأسيسها ظلت منظمة ارجنكون على خصومة مستمرة مع الهوية الإسلامية في البلد الذي يمثل المسلمون 99% من سكانه. صحيح أن المنظمة مارست أنشطة عدة، مثل غسل الأموال والاتجار في السلاح والمخدرات، لكن تلك الخصومة احتلت المرتبة الأولى، لأنها تذرعت بالدفاع عن العَلمانية، التي يعتبرها الكماليون قدس الأقداس في تركيا.
يوما ما نشرت صحيفة «اكيب» صورة لسيدة ترتدي خمارا وإلى جوارها صور لثلاثة أشخاص وكان ذلك ضمن تقرير تحدث عن ممارسة السيدة لأعمال منافية للآداب، اعترف بها الأشخاص الثلاثة. وتصادف أن وقعت الصحيفة بين يدي أحد الصحفيين الأتراك الذين درسوا في مصر وله متابعته للمجلات العربية. وما إن وقعت عيناه على الصور المنشورة حتى تعرف على صاحبة الصورة، التي كانت الممثلة المصرية السيدة آثار الحكيم، وانتبه إلى أنها كانت على غلاف مجلة «سيدتي» (عدد 18 يناير سنة 1997). وحين رجع إلى المجلة وجد أن صور الأشخاص الثلاثة هي لمصريين نشرت صورهم في العدد ذاته، في سياق مختلف تماما. لم يفاجأ زميلنا الصحفي التركي - سفر توران الذي يعمل الآن مستشارا للشئون العربية بمكتب رئيس الوزراء - فما كان منه إلا أن ظهر على شاشة التليفزيون وفضح الصحيفة، حين أظهر للمشاهدين التقرير الذي نشرته، ووضع إلى جواره غلاف صحيفة «سيدتي»، ولم يكن ذلك هو التلفيق الوحيد، لأن وسائل الإعلام التركية وثيقة الصلة بمنظمة ارجنكون حفلت بالقصص المماثلة التي ما برحت تشوِّه صورة المتدينين وتحاول إقناع الناس بأنهم ليسوا منحرفين سياسيا فحسب، ولكن منحطين أخلاقيا أيضا، حتى أن إحدى الصحف نشرت صورة للسيدة زينب الغزالي، الشخصية الإسلامية المعروفة في مصر وإلى جوارها صورة شبه عارية لفتاة وسط تقرير ادعت الصحيفة فيه أن الفتاة زوجة ابنها وأنها تبيع جسدها للراغبين.
أما المشايخ فقد كان حظهم أوفر من التشهير الذي تعمد تقديمهم بحسبانهم أفاقين وشهوانيين ولا هم لهم سوى ممارسة الجنس والاتجار في الأعراض. وإذا كانت الصحافة الصفراء قد لجأت إلى ما فعلته بحق السيدة آثار الحكيم والحاجة زينب الغزالي، رحمها الله، فلك أن تتصور مدى الجرأة على الاختلاق والتلفيق الذي بلغته في هذا الصدد.
هذا التشويه الأخلاقي يظل نقطة في بحر إذا ما قورن بحملات التشويه التي ما برحت تخوف الأتراك من عودة الخلافة، ومن «شبح» الشريعة، ومعها إرهاصات التطرف والإرهاب.
وهذه الحملات الأخيرة لاتزال مستمرة حتى الآن، حيث لم تكف الأحزاب المعارضة، القومية واليسارية، عن توجيه الاتهام إلى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وفريقه بأن لديهم أجندتهم الخفية التي تستهدف إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة. فإن الخصومة بلغت ذروتها في عام 1996، حين شكل نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاه الإسلامي حكومة ائتلافية، للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية. وهو ما استنفر المنظمة واستفز عناصر التطرف العَلماني. فظهرت تلك التقارير تباعا في بعض الصحف، وأطلقت مظاهرات الدفاع عن العَلمانية، والقيت قنبلتان على فناء صحيفة الجمهورية العَلمانية المتطرفة (مدير تحريرها اتهم بعضوية منظمة ارجنكون) وقتل أحد المحامين قاضيا في المحكمة العليا، وفي التحقيق قال المحامي إن القاضي كان يعارض السماح للمحجبات بالدراسة في الجامعات.
هذه المقدمات لم تكن كلها مصادفات، ولكنها كانت من قبيل التسخين وتهيئة الأجواء لنزول الجيش إلى الشوارع، ودعوة مجلس الأمن القومي لاجتماع استمر تسع ساعات في 28 فبراير عام 1997، وإصداره قائمة من القرارات التي استهدفت كلها قمع الإسلاميين وإقصاءهم من أجهزة الدولة وحصار التدين في كل مظانه، الأمر الذي انتهى باستقالة اربكان من منصبه وبإغلاق حزب الرفاه الذي يرأسه.(3)
حين تولى حزب العدالة والتنمية السلطة بعد أن فاز بالأغلبية في عام 2002، كان طبيعيا أن يفتح ملف الدولة العميقة، حيث كان مفهوما أن الصدام قادم لا محالة على منظمة ارجنكون، وقد سارع بفتح الملف أن أجهزة الأمن كانت تراقب شقة سكنية بإحدى ضواحي استنبول. وحين اقتحمتها عثرت فيها على مخزن للأسلحة وعدة وثائق بالغة الأهمية. إذ وجدت بها قنابل من نفس الطراز الذي ألقي على صحيفة الجمهورية، كما عثرت على صورة للمحامي قاتل القاضي مع أحد الجنرالات المتقاعدين. وصورة أخرى لقائد الشرطة العسكرية السابق، الذي يعد أحد أهم خمس قيادات عسكرية في البلاد، وصورة لجنرال ثالث مع مؤسس جمعية الدفاع عن الأفكار الأتاتوركية. وكانت تلك الوثائق بين الخيوط المهمة التي تتبعتها أجهزة الأمن والتحقيق التي توصلت إلى ملفات أخرى في تنظيم أرجنكون الجهنمي.
في الرابع من شهر مايو الماضي نشرت صحيفة «حريث» التركية أن 19% من جنرالات الجيش أصبحوا خلف القضبان بعدما أدت التحقيقات الجارية في قضية أرجنكون إلى اعتقال 68 جنرالا منهم.
وقد اتهموا بتنفيذ مخطط سياسي وإعلامي للإطاحة بحكومة اربكان في عام 1997، من خلال الضغط على بعض النواب والساسة ووسائل الإعلام للتحريض ضد الحكومة وإسقاطها، إضافة إلى تصفية مؤسسات اقتصادية وجمعيات إسلامية، وتقديم كشوفات بأسماء نحو 6 ملايين شخص فصلوا من عملهم بأجهزة الدولة أو روقبوا أو منعوا من العمل أو التقدم في أي نشاط سياسي أو اقتصادي.
في 17/4 نشرت صحيفة الحياة اللندنية أن قرارا صدر باعتقال الجنرال المتقاعد والنائب السابق لرئيس الأركان شفيق بيير وتسعة من رفاقه، بعد اتهامهم بتنفيذ الانقلاب على حكومة اربكان. وأضافت أن الجنرال بيير خضع لتحقيق مطول تطرق إلى سؤال عن دور إسرائيلي أو أمريكي في الترتيب للانقلاب. كما سئل عن تعاون فنانين وممثلين معه لإنتاج مسلسلات درامية تحدثت عن خطر الإسلاميين وعمدت إلى إشاعة الخوف من تأسيس جماعات إسلامية متطرفة، للإيحاء بأن ثمة خطرا يهدد البلاد.
(4)
حين يستعرض المرء على مهل تفاصيل أنشطة منظمة ارجنكون، فإن مسلسل الأحداث التي شهدتها مصر منذ بداية الثورة في 25 يناير من العام الماضي وحتى الآن، يظل ماثلا أمام عينيه طول الوقت.
سيجد أن طرفا مجهولا رتب موقعة الجمل، وفتح السجون وهاجم أقسام الشرطة، وأطلق الرصاص على المتظاهرين، وآثار الإضرابات والاعتصامات، وأجج الفتنة الطائفية، ورتب خطف السيارات واقتحام البنوك، وحرض على حصار مجلس الوزراء، واقتحام وزارة الداخلية وتهديد وزارة الدفاع، كما أقدم على إحراق المجمع العلمي واقتحام المتحف المصري ودبر مذبحة استاد بورسعيد، وسوف تستوقفك في السياق حكايات المرشحين للرئاسة الذين استبعدوا فجأة والذين أعيدوا فجأة، كما لابد أن تثير انتباهك تلك الحملة الشرسة التي تستهدف تخويف المجتمع بكل فئاته من الإسلاميين، وترويعهم من مغبَّة اقترابهم من مواقع السلطة أو جهات إصدار القرار.
قد لا يخلو الأمر من التعسف إذا ربطنا بين كل تلك الوقائع ووضعناها في سياق واحد، لكنك لن تخطئ إذا ما وجدت تشابها كبيرا بين الذي يجري في مصر وبين ما فعلته ومازالت تفعله منظمة ارجنكون، وخصوصا فيما تعلق بإثارة الفوضى في البلاد، والتخويف من الإسلاميين وتلطيخ صورتهم بالأوحال والأوساخ.
الفرق الأساسي بيننا وبينهم أنهم هناك عرفوا من المدبر والفاعل، أما نحن فمازلنا نضرب أخماسا في أسداس، ونتراوح بين العبط والاستعباط، لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر مع ذلك أن في مصر دولة عميقة تعمل في صمت وتقبع في الظل، وإن لم نعرف لها اسما بعد.